٭ عندما أطّلعتُ على الاعلان الذي حملته الصحف عن موعد الندوة التي سيتحدث فيها د. حسن الترابي وآخرون حول التعديلات الدستورية المتصلة بتعيين الولاة أم انتخابهم بنادي المحامين.. راودتني رغبة في حضور تلك الندوة لأكثر من سبب.. برغم ما اعتراني من زهد وفتور في حضور اللقاءات العامة والندوات.. لتقديري بأنها لم تعد منتجة.. وأهم تلك الأسباب أن المتحدث الرئيسي فيها هو «شيخ الترابي» وأن موضوعها- انتخاب الولاة أم تعيينهم- كان من أبرز قضايا الخلاف بين الشيخ وتلاميذه.. ذلك الخلاف الذي انتهى ب«المفاصلة» عام 9991م. ٭ فالشيخ الترابي، في زمان مضى، كان ممن تضرب «كباد السيارات» لحضور مخاطباتهم.. ومحفزات ذلك كثيرة.. منها كارزماه الشخصية.. والكاريزما- أي الحضور الآسر- هي من تلك الأشياء التي لا تشترى.. إنما هي من النعم والمواهب الربانية.. يُغذيها ويُنميها الكسب المعرفي والتدريب.. وفي ذلك نال الترابي الحُسنَين.. فمن بين مقومات كاريزما الترابي هو طريقته في الحديث والخطابة.. فحديثه يصدر من صوت جهوري لا يخلو من بُحة وغنائية منغمة، مصحوبة بحركات بدنية موحية صادرة من الوجه واليدين.. بغرض التوصيل وجذب اهتمام السامعين.. يضاف إلى ذلك جرأته المعهودة في طرح مواقفه دونما خشية من عواقب ومترتبات. ٭ كل ذلك، اغراني بحضور ندوة الترابي في دار المحامين التي انعقدت مساء الاحد.. لكن موعد الندوة سقط من ذاكرتي سهوا.. فعمدتُ في اليوم التالي إلى مطالعة وقائعها ومخرجاتها.. فحمدتُ الله واثنيت عليه أنني لم اتكبد مشقة الذهاب والحضور.. فمن واقع تلك الشهادات المسجلة التي تابعتها في أكثر من تقرير بأكثر من صحيفة فإن الترابي قد أمَّ الندوة بالفعل وتحدث فيها باسهاب لكنه تعمّد أن لا يقول شيئاً ذا بال، وكان خطابه فيها من قبيل الاستجابة لما يطلبه المستمعون.. و «ما يطلبه المستمعون» برنامج شهير ناجح كانت تبثه الاذاعة السودانية منذ خمسينيات القرن الماضي يختار فيه أحد المستمعين أغنية يهديها إلى الأهل والأصحاب في مختلف بقاع السودان مصحوبة بالتمنيات الطيبة أو التهاني إذا ما صادفت إذاعته أحد الأعياد الدينية أو القومية.. تذكرت هذا البرنامج العتيق وأنا اطالع ما حملته الصحف عن ندوة دار المحامين.. فلم اجد أفضل منه عنواناً لهذه «الإضاءة». ٭ فبعد ما يقارب العام من صمت الشيخ.. الذي اعتقد الناس أنه «فوق راي».. واطلاقه لسان كمال عمر المتحدث الأوحد باسم الشيخ والشعبي «مُلعلعاً» في كل محفل «و ملّمة» ومنتدى.. خرج الترابي إلى دار المحامين بناء على طلب المنظمين و«المستمعين» الذين انصتوا باهتمام لذلك الصوت الشجي الأثير، لكن قطعاً لم «يطربهم» هذه المرة.. لأنه لم يردد حتى تلك الأغاني القديمة والمأثورة. ٭ علمتنا مهنة الصحافة أن نبحث عن «الخبر» والمعلومة الجديدة في أي قول أو فعل أو حدث بغض النظر عن مصدره أو تصنيفه.. وعندما طالعت أقوال الترابي بنادي المحامين ليلتها.. لم أجد خبراً أو معلومة جديدة تستحق الرصد والتحليل. ٭ لفت نظري في شهادات الزملاء الذين كتبوا التقارير وسجلوا اللقاء أن حديث الترابي افتقر إلى الخيط الناظم وغابت عنه وحدة الموضوع.. بالرغم من عنوان الندوة المقرر سلفاً وهو التعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس وشكل لها لجنة برئاسة الاستاذة بدرية سليمان، التي كانت ايضاً حاضرة ومتحدثة في الندوة.. اللهم إلا ما يمكن أن يحلظه المراقب المدقق من وحدة المصدر والمنطلقات بقاعدتها وقاعها العميق «الاسلام السياسي» الذي شب وشاب عليه الشيخ.. مصادر و منطلقات كان يُرجى أن يكون د. الترابي أهم وأخطر مراجعيها، بالنظر لما يتمتع به من مؤهلات.. لكنه لم يفعل. ٭ عن موضوع الندوة.. التعديلات الدستورية الخاصة بالولاة.. قال إنها «مقبولة.. كونها ستنهض في وجه القبيلة».. وتحدث عن مصطلح «الدستور» واستعرض أكاديمياً فرده إلى اللغة الفارسية.. ثم طوف على مراحل مختلفة من تاريخ السودان الحديث والقديم.. عن الانتفاضة وعن المهدية وعن الصوفية وعن الحركات «ذات النزعة الاسلامية» التي وصفها بأنها «لا تعرف شيئاً عن الحكم لكنها تعرف عن الجهاد».. تحدث أيضاً عن الانفصال واصفاً اياه بأنه كانقطاع جزء من الجسد وكانت له آثار سالبة.. على الاقتصاد والموازنة وتولّد عنه «الجنوب الجديد» وساءت علاقات السودان مع البعض.. تحدث عن «الردة» وعن الايبولا.. كان الشيخ كما قال أحد التقارير «يقفز بين جملة وأخرى لا يكمل النقطة، انما يتركها مفتوحة للمستمع ليفهم منها ما يشاء». ٭ باختصار بدا لي شيخ الترابي هذه المرة- على غير العادة- وكأن «في فمه ماء» وربما ذلك هو «الخبر» الوحيد، وإن لم يكن «جديداً» تماماً.. فهل بات الرجل ك«زامر حي لا يطرب أهله»؟!