٭ «الغزالي والاسماعيليون».. «العقل والسلطة في اسلام العصر الوسيط».. عنوانان اختارهما الباحث «فاروق ميثا» الاستاذ بجامعة ڤانكوفر الكندية لكتابه الجديد الصادر عن معهد الدراسات الاسماعيلية في لندن ونقله إلى العربية «سيف الدين القصير» وتكفلت بطباعته ونشره «دار الساقي» في بيروت. ٭ أهمية الكتاب الذي برّني به خلال زيارتي الأخيرة للبحرين ابننا الطالب النابه حسين كمال عثمان، تنبع عندي من أنه صادر من معهد الدراسات الاسماعيلية، غير المتهم- بالضرورة- بالانحياز ضد الاسماعيليين والشيعة عموماً، ويتبنى نهجاً «موضوعياً- أكاديمياً» متعمقاً في معالجته للجدل بين أهل السنة والجماعة الذي مثله في ذلك العصر الوسيط أبو حامد الغزالي- الملقب بحجة الاسلام- في مواجهة الطائفة الاسماعيلية الشيعية ورموزها الفكرية.. الكتاب يقدم عرضاً نقدياً انطلاقاً من النص لكتاب الغزالي موضوع النظر الموسوم «الكتاب المستظهري» نسبة للخليفة العباسي «المستظهر» والذي يحمل عنواناً آخر اختاره الغزالي هو «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية». ٭ وبما أن الكتاب «الغزالي والاسماعيليون» ليس من ذلك النوع الذي يستهدف متعة القاريء، و لا معنياً بالقراء جميعاً دون فرز، بل موجه بالأساس للمهتمين بقضايا الفكر والنظر في فلسفة الأديان عموماً وفي الفروق بين الفرق الاسلامية على وجه الخصوص.. ولكي يغدو كتاباً في متناول الجميع فهو عندي يحتاج «لاعادة كتابة» تبسّط وتلخّص النص وتتفادى التفاصيل و «المطبات» النظرية العسيرة، حتى يخاطب الناس «على قدر عقولهم». ٭ الجديد بالنسبة ليّ في كتاب «فاروق ميثا» في ما يتصل بالعلامة أبي حامد الغزالي هو التركيز على فترة ظهوره كمفكر وعلم من علماء الإسلام، وهي فترة من أكثر فترات الخلافة الاسلامية (العباسية) تدهوراً وانحطاطاً، حيث أصبح الحكم وشؤونه وتدبير حياة الأمة والخلافة ذاتها في يد السلاجقة الأتراك، والذين برغم اعتبارهم من الموالي أصبحوا سادة بغداد استناداً إلى قوتهم العسكرية وتمكنهم من مفاصل الدولة، وتحول الخليفة «المستظهر» إلى مجرد «رمز» للسيادة الشرفية للعرب القرشيين العباسيين.. رمز لا يملك من أمره شيئاً بعد أن بات القول الفصل بين يدي القوة السلجوقية المتمكنة متمثلة بالسلطان «ملك شاه» ووزيره «نظام الملك».. وحينها كان الغزالي استاذاً للعلوم الاسلامية بالمدرسة البغدادية.. وبرغم إدراكه العميق لما يدور حوله فقد لجأ الغزالي إلى نوع من ما يسمى ب«فقه الضرورة» لخلق حاله من «الموازنة الدقيقة» بين مطلوبات الواقع المضطرب والمتدهور للخلافة، والدفاع عن مبدأ «الخلافة» في مواجهته النظرية مع الشيعة الاسماعيلية التي علا شأنها وكانت تحكم مصر وانحاء عديدة من ديار المشرق والمغرب العربي، فدولة الفاطميين كانت في أوج قوتها والخلافة العباسية الممثلة لأهل السنة والجماعة تتراجع وتقع في قبضة جماعات إثنية بدأت في خدمة الخليفة والخلافة وانتهى أمرها إلى السيطرة على أذمّة الحكم. فكان على الغزالي ان يراعي تلك الضرورة في تنظيره لمن هو أحق بالخلافة دون أن يغضب السلاجقة القابضين على سلطة الخلافة في الواقع. ٭ وقد انعكس هذا الواقع المتردي لاحوال الخلافة على بعض ما ورد في كتاب المستظهري وكتابات أخرى كانت بمثابة نصائح وارشادات للحكام الفعليين أصحاب الشوكة من السلاجقة كما في كتاب «المرايا»، لكن دون أن يفقد الغزالي اهتمامه وحججه الجوهرية في الدفاع عن نهج «السنة والجماعة» ورؤيتهم وشروطهم للإمامة والسياسة الشرعية وصحيح الدين في مواجهة ما يراه من انحراف يصل حد تكفيره لما يسميه بالفرق الضالة من الشيعة الاسماعيلية واحزابهم وتفسيراتهم «الباطنية» للنص القرآني وللحديث الشريف ولنظرية «التعليم» المتمثلة في أخذ الدين في كل وقت وحال عن إمامهم «المعصوم» وامامتهم المتوارثة.. و يتشكك الغزالي في كتابه ويسأل مستفهماً عما إذا كانت أي من الأقوال الجازمة، التي يرددها الشيعة الاسماعيليون، منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم متواترة حقاً.. من ذلك مثلاً: «الامامة بعدي لعلي وبعده لأولاده لا تخرج من نسبي، ولا ينقطع نسبي أصلاً، ولا يموت واحد منهم قبل توْليتِه العهد لولده».. أو «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه».. ويردُّ الغزالي بأنه ليس هناك دليلاً من أي نوع كان على وجود تواتر لهذه التسميات النصية.. وبرغم أن الغزالي يكفر الاسماعيليين واضرابهم من الفرق، لكنه في إطار السنة لا يرى تكفير من «خرج على الاجماع» كما تفعل بعض الفرق المتزمتة في وقتنا الحاضر، لأن هذا الخروج لا يدخل في إطار «التكذيب» للنبي أو القرآن كشرط مسبق اساسي للتكفير، كما هو في حالة الاسماعيلية بأفكارهم حول القيامة الجسمانية والجنة والنار «الماديتان» في العالم الآخر باعتباره حالة تكذيب صريح تسوِّغ تهمه التكفير. ٭ لا يتسع المقام لعرض موسع لكل ما ورد في كتاب «الغزالي والاسماعيليون» ولكنه ربما لا يكون أقل أهمية من حيث النظر الفكري والفلسفي من كتبه الأخرى المشهورة كالمنقذ من الضلال واحياء علوم الدين، إن لم يكن يبزّها في موضوعه ومجال اختصاصه الذي هو المقارعة الفكرية والمنطقية في مواجهة أقوى وأهم الفرق الشيعية في العصر الوسيط.. الكتاب يستحق القراءة من المهتمين وذوي الاختصاص وهو حرى بالتبسيط والتلخيص والنشر حتى تبلغ فوائده العامة في وقت تصطرع فيه الرؤى الفكرية والعقائدية والطائفية في عالمنا المائج بالاضطرابات و الصراعات العنيفة.