السوق في بربر تنفض في منتصف النهار.. إذ يعود القرويون الذين يرتادونها إلى قراهم بعد أن يبيعوا منتجاتهم ويقتنوا احتياجاتهم وتكاد «ڤرندات» المتاجر وكذلك زنك الحضار واللحوم تخلو تماماً من المارة والحضور الذين كانوا يتجولون نهاراً فيها يتبادلون المصلحة والدعابة خفيفة الظل، وأخبار ليلة البارحة في كل القرى شرق النيل وغربه وهي تنحصر في المشاجرات التي تقع دائماً بين راقصين ركزا للشبال في وقت واحد مما أدخل الفتاة في حيرة ويربك حركة أقدامها على إيقاع الدلوكة والوضع يكاد يتحول إلى واقع مختلف أو وصول «الحلبة» إلى قرية من القرى وكيف احتالوا على رجل مسكين وباعوه حماراً عجوزاً أو أعور أو إلى ما غير ذلك من العيوب. لكن ذات السوق تشهد انتعاشاً خفيفاً بعد صلاة العصر.. حيث يتجمع سكان الحي المجاور لها أمام دكان معين يهتم صاحبه بإقامة صلاة المغرب فيقوم بتحضير «الأباريق» والبروش، ويبدأ في تهيئة المكان قبل دخول الوقت ثم يشرع في استقبال الوافدين وجلهم من أصحاب المحلات المجاورة، والسر في عملها بعد انفضاض السوق يكمن في كونها تقدم خدمات لسكان الأحياء المجاورة للسوق مثل المغلق والصيدلية ومطعم الأسماك والبقالة. تبادل الرجال التحايا ويواصلون ما انقطع من أحاديث الليلة البارحة ما لم يكون هناك خبر طازج مثل غارة لصوص الأعلاف على زروع الأهالي في قرية ترتبط بالسوق أو اكتشاف البوليس لسرقة بهائم في قرية أخرى وغيرها من الأنشطة غير القانونية المعتادة ويعرف الناس مرتكبيها منذ وقوعها لذا تتقاطع أصواتهم في نطق العبارة المألوفة «الحرامي أكان ما اتقبض شريف».. عند هذا الحد يشرعون في ترديد عبارات الاستغفار على إثر موجة النميمة التي اجتاحتهم ولم توفر أحداً ثم يقفون استعداداً لأداء الصلاة لأن وقت المغرب ضيق وأن الأستاذ الذي يؤمهم في الصلاة قد حضر، فيأمرهم بعد الإقامة أن يساووا بين صفوفهم ويسدوا الفرج.. لأن استقامة الصفوف من تمام الصلاة، ثم يعلن بصوته الجهوري عن تكبيرة الإحرام ويرتل القرآن بالطريقة التي شهد بها كل من حضر تلك الصلاة، قال أحدهم إنه لم يسمع أجمل من صوت الأستاذ لدى مغنٍ أو مادح، وربما يعود احتشاد الناس أمام ذلك الدكان وقت المغرب نوعاً ما إلى جمال صوت الأستاذ. عقب الصلاة تكون هنالك مناقشات في أمور الدين والدنيا ويحرص الأستاذ أن لا تجنح إلى النميمة، يعينه في ذلك غزير علمه بشؤون الدين والدنيا، حتى جاء ذلك اليوم الذي لم يحضر فيه الرجل للصلاة، وكان لا بد أن يثير غيابه سؤال المصلين عنه، والذي ابتدره حاج بكري صاحب الدكان ليتلقى إجابة ما كانت تخطر له على بال، فقد عرف أن الأستاذ قد تم اعتقاله بسبب مظاهرات الطلاب التي اجتاحت المدينة الصغيرة احتجاجاً على ارتفاع أسعار السلع الضرورية، بيد أن الإجابة لم تكن مقنعة بالنسبة لحاج بكري فسأل مستفسراً.. لكن هو طالب؟.. فجاءت الإجابة التي شكلت الطامة الكبرى لحاج بكري «لا هو شيوعي» فصفق حاج بكري مقلباً كفيه حيرة وهو يردد «شيوعي.. شيوعي» لكن صلاتنا الصليناها وراهو دي راحت ساكت.. فقال له كل من في المجلس إنهم مطمئنون بشأن صلاتهم خلف الأستاذ وعلى حاج بكري أن يتدبر أمره، أو على حد تعبيرهم «أنت على كيفك». انقطع الأستاذ عن صلاة المغرب ولم يدرِ أحد أين اختفى، وكان أكثر الناس سؤالاً عنه هو حاج بكري حتى صباح ذلك اليوم الذي ارتاد فيه السوق رجل على صلة بالأستاذ، فعرف منه بكري أنه قد توفي وهو ساجد في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء. يبدو أن الأستاذ قد أحيل إلى المعاش بعد خروجه من المعتقل، فسافر إلى قريتهم ولم يعدم دكاناً يصلي فيه مع الناس الذين لم يلبثوا أن قدموه عليهم لجمال صوته، وقد دفعه التفاف الناس حوله إلى أن يقيم حلقة التلاوة بعد صلاة العشاء ارتادها كل من هو في عمره حتى ضاق المصلى المرصوف بالطوب الأخضر والمفروش بالرمل أمام الدكان بالناس، في صلاة العشاء ذات ليلة وتحديداً في السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة أطال الأستاذ السجود على غير المعتاد من خشوعه في الصلاة، وكان ببساطة شديدة قد أسلم الروح إلى باريها.. رحم الله الأستاذ حافظ حيدر من أبناء عنيبس بمحلية بربر والذي افتقدته حلقة التلاوة والجمعية التعاونية وفرع الحزب الشيوعي جنوبالمدينة.