وما زالت تصريحات الأستاذ حسبو نائب رئيس الجمهورية تدوي في الأفق.. بل في رؤوسنا كالطبول.. وما زلنا نريق أنهر من المداد لنضحضحها حرفاً.. حرفاً.. سطراً سطراً.. ولإنعاش ذاكرة أحبابنا القراء نعيد الذي قاله السيد الأستاذ «حسبو».. فقد قال الرجل إن الإنقاذ هي النسخة الثانية من الثورة المهدية.. وله نقول يمكن للإنقاذ أن تكون النسخة الثانية ل «مايو» ولكنها لم ولن تكون النسخة الثانية من الثورة المهدية.. وقطعاً.. ويقيناً ومؤكداً أنه يعني أن أوجه الشبه تكمن في «الدين».. والرجل يعني أن قاعدة البناء الصلبة الراكزة هي أن الثورة المهدية كان هاديها.. بل من أهم أسباب انطلاقها هو الدين وأن أحلامها وآمالها التي فعلاً تحققت هي أن شرع الله المطهر قد مشى على الأرض وبين الناس وأن أعلامه قد زرعت كل فضاء الوطن تهليلاً وتكبيراً وإعلاناً بأن الدولة قد صارت دولة دينية ليس في ذلك شك.. وكذا ظن الأحباب في الإنقاذ أنهم إنما جاءوا لتمكين دين الله في الأرض.. ولا عجب أن حشدوا الفضاء بالأناشيد والشدو والهتاف «وهي لله.. هي لله.. لا للسلطة ولا للجاه» و«لا لدنيا قد عملنا» و«طبقنا شريعة وتاني ما في طريقة لي حكم علماني».. ويشهد الله ويشهد الناس ويشهدوا هم أنفسهم أنها كانت مجرد شعارات ملأت السماء وتبددت كما الدخان.. ويشهد الله ويشهدوا هم أنفسهم أنهم لم يضيفوا إلى قوانين سبتمبر التي أسماها نميري شرع الله.. لم يضيفوا إليها حرفاً أو نقطة أو شولة.. والعجيب والمدهش في الأمر.. أنهم أنفسهم وبعد ربع قرن من الزمان قالوا إنه لن تكون بعد اليوم شريعة «مدغمسة».. وأنه وبعد أكثر من عشرين سنة.. قال السيد كرم الله عباس عندما كان في قلب المركب.. وعندما كان ممسكاً بدفة مركب القضارف.. قال لا بد من تطبيق شرع الله.. وما زال المنبر يهتز والمايكرفون يهتز ومولانا «كمال رزق» وفي كل جمعة يقول «لا بد من تطبيق شرع الله».. ونأتي إلى اختلاف بعرض محيط.. بل اختلاف يشبه اختلاف الليل عن النهار.. اختلاف اسمه الزهد.. وهي قيمة راكزة وشامخة في الدين الإسلامي.. ونبدأ «الشوط من الأول» فعندما فتحت القوات المهدوية المنتصرة كل الخرطوم.. وعندما اجتاح الأنصار القلاع والحاميات والحصون.. وعندما دخلوا حتى حجرات قصر غردون وبعد أن دانت لهم الخرطوم كاملة لا تنقص بوصة واحدة.. رفض قائدهم الإمام المهدي أن يكون قصر غردون مقراً لحكمه رغم ما به من مزايا ومرايا.. رغم ما به من ترف.. بل رفض المهدي الخرطوم كلها.. بمبانيها الحديثة ومنازلها الفخيمة التي بناها الأتراك وقصورها المترفة بحدائقها الزهرية العطرية.. بأشجارها الباسقات وثمارها العسليات.. رفضوا كل كذلك وتوجهوا شمالاً إلى أم درمان التي كانت بلقعاً تعوي فيها الريح.. والتي كانت قرية بائسة غبراء متربة.. قطاطي من القش ورواكيب من الحطب.. وغرفاً بائسة مشققة وأسواراً.. بل «صريف» من عيدان القصب الرفيعة.. وأتيتم أنتم يا أحبة.. ولم تكتفوا حتى بالخرطوم الجميلة.. بل اتجهتم أو اتجه الكثير منكم جنوباً وشرقاً قريباً من الخرطوم.. وزرعتم «الساحات» والمساحات بالشواهق والمترف من العمارات.. المكسوة حيطانها بالسراميك.. وغداً نواصل