هذه الرواية التي كتبها الأستاذ محمد خليل قاسم، وهو كاتب نوبي مصري، والتي تحولت عام 1968م إلى مسلسل إذاعي نعتبرها أروع رواية، وثقت حياة المجتمع النوبي، تحكي قصة المآسي التي وقعت على قرية نوبية فقيرة وادعة في النوبة المصرية، عندما هبط عليها طوفان بسبب قفل خزان أسوان بعد تعلية جديدة عام 1933م! *** سردنا سابقاً كيف سقطت القرى النوبية الواحدة تلو الأخرى مع التعليات الثلاث، ونقلنا صورة عن الخلفية السياسية للمؤلف، وسردنا أيضاً أن الشمندورة كانت من علامات النيل على شكل برميل أحمر كان يقاوم الأمواج ليل نهار، اتخذها المؤلف هنا رمزًا للوجدان النوبي الممزق بين مصر والسودان ! *** في الحلقات السابقات جرفتنا الرواية وسط أعداد هائلة من الصور،حملت الكثير من تفاصيل الحياة في القرية النوبية بخصوبة بالغة.السلام الاجتماعي الذي تم رسمه أوضح بجلاء أسباب تأصل الثقافة المحلية والتراث في سلوك النوبي. وصفت الرواية أنواعاً كثيرة من الشخصيات، كل منهم كان يمثل قصة قائمة بذاتها ثم بدأت تبين هذه الصور والأحداث أنباء مصيبة قادمة على القرية، وقد تحققت هذه الهمسات بقرار حكومي بنزع الملكية وإنذار الأهالي بطوفان قادم مع السدة الشتوية لخزان أسوان، الذي تم تجديد ارتفاعه من 113 متر إلى 121متر. تركناهم في الحلقة السابقة، وقد انهارت مقاومتهم أمام أموال التعويضات، أما في هذه الحلقة يهبط الطوفان، ويتهدم كل شيء في القرية ويهرب الأهالي إلى أحضان الجبال. هناك تتركهم في الرواية، وهم يتجرعون مرارة التهجير. في هذه الأثناء يبلغ الطفل الراوي سن البلوغ وتنتهي الرواية مع الطفل، وهو يدخل المدرسة. كأنما أرادت الرواية أن تقول: فلتبق المأساة حتى يتعلم الناس وبشرتنا بأن لا يأس مع الحياة!!عاد الهدوء إلى القرية بعد أن ارتوت شقوق الفقر بالجنيهات الخضراء، وغادرت لجنة التعويضات دارالعمدة. بدأت تطرأ مواضيع جديدة في نقاشات الأهالي، وخاصة كبار السن منهم، وخاصة حكاية أين يستثمرون أموالهم، وكيف ستبدأ الاستعدادات للرحيل..؟! (برعي) زعيم المقاومة أطلق لحيته، وآخرون سكبوا الخمور على قبور الآباء!! *** دوت فجأة أصوات في طرقات النجع تقول:- «إنذار من الحكومة 51 يوم» علم الناس على التو أنه ميعاد الطوفان، وميعاد الرحيل عن القرية قد اقترب. تأكدوا من اقتراب المصيبة، عندما بدأت ترد من القرى الشمالية، أنباء عن المياه التي بدأت تغرق القرى هناك. وفي هذه الأثناء فقط بدأ الأهالي في تهديم المنازل، ونزع السقوف واقتلاع الأبواب.. بقي يومان وأصحاب المراكب راحوا يغالون في أجورالترحيل. «تساهل معي يا مرسال..أنا رجل فقير الله الغني يا نوح. أنا أفقر منك كان جدي عبداً لم أرث عنه شيئاً» هبط الطوفان على القرية ليلاً، وبدأت المياه تأكل وهاد الجزيرة. وبدأت تنبعث أصوات هائلة من هدير الأمواج التي بدأت تندفع للقرية «كل شيء في قريتي يتهدم، السواقي والشواديف والبيوت والحظائر كل شيء يتلاشى»، مع طلوع الشمس ظهرت أكوام من بقايا البيوت التي تهاوت على الشاطيء. وبدأت الشمندورة مع الأمواج العاتية ترتطم في نضالها الأقصى!! وصلت طلائع المياه المندفعة إلى وسط القرية والجدر تتهاوى محدثة غباراً داكناً. تظهر أسراب من الأوز الأبيض وهي تحط على الأغصان هاربة من (الريح التي أخذت تعوى مثل الذئاب). نداءات غير معروفة المصدر تصدر من جوف الطوفان تنادي بعض أهل القرية. في هذه الأثناء جاء وفد حكومي يبحث عن قياسات النيل، ولم يهتم بما يحدث للأهالي. بدأ الصراع مع العقارب والثعابين في العراء، ورحل بعضهم إلى القرى الجنوبية، واجتاز آخرون الحدود السودانية. وقليل منهم سافرإلى الصعيد المصري في الشمال! تضعضعت أركان سلام اجتماعي نسجت خيوطه القرون، واستحالت الحياة الزاخرة بالحركة إلى نوع من الكسل والملل ، أما تلك النجوع التي كانت ظليلة بأشجار النخيل العتيقة تحولت هنا إلى ساحة مليئة بخيام متراصة حدث أن شبت فيها النيران قبل أن يستقروا. تتركهم الرواية في حياتهم الجديدة الجافة التي فيها يشتهون لحزمة (فجل أو قضمة بصل أخضر). رغم تلك المآسي وصفت الرواية المحاولات المتفائلة بالمستقبل من قبل بعض المهجرين من خلال وصفهم، وهم يحفرون الجداول ويبنون السواقي ويقيمون البوابير. وربما أرادت الرواية بذلك أن تستخلص قيمة فلسفية وهي أنه، مهما كانت المآسي عميقة ومدمرة فإن الحياة (أروع من اليأس). مقارنة: هذه الخاتمة التي انتهت إليها الرواية شبيهة بخاتمة كتاب(الغربان في سماء النوبة) لمؤلفه المحامي في الخمسينيات الأستاذ أحمد إبراهيم (أبوإياقة)، وهذا الكتاب صدر مع إصدارات أخرى للمؤلف قبل عشر سنوات من صدور (الشمندورة). الفرق بين الروايتين ليس في حجم الاهتمام بالتفاصيل فقط - الشمندورة أكثر تفصيلاً وأكبر حجماً - بل في أن الأستاذ أبو أياقة الذي لا يقل فنياً عن محمد خليل قاسم كتب إصداراته التي لم تتجاوز الثمانين صفحة كجزء من مشروع سياسي، ويعالج بها قضية اضطهاد النوبيين في مصر. ربما الأهداف السياسية هنا وقفت حائلة أمام الاستفادة القصوى من فنيات هذا القلم الرشيق. وخاصة في تلك الرسالة التي بعث بها لعبد الناصر، والمثبتة في نهاية الكتاب!! أما في تجربة (الشمندورة) فقد كان الانهيار في مشروع الكاتب السياسي عاملاً حاسماً في إضفاء قيمة فنية جمالية على الرواية. مؤلف (الغربان في سماء النوبة) يصف مأساة قرية نوبية تعرضت للغرق عام 1946م وصفاً طويلاً، ثم يترك بصمات المأساة واضحة على وعي الأجيال بقوله:«وكانت هذه الجثث التي دفناها هناك على سفح الجبل اللبنات الأولى لقريتنا الجديدة» ولكنه بالرغم من كل صور المأساة التي بثتها لا ينسى أن يبعث الأمل في المستقبل بطريقة جدلية بقوله(وانقلبت أراضينا التي كانت محدودة المساحة إلى أراضي زراعية واسعة). هذه الصور الزاهية التي أتت بها ترسبات الطمي لم تستمر طويلاً فقد عاد المؤلف ليصف قومه بعد سنوات معدودة «سوق من قبور الموتى» وربما لولا المشروع السياسي الذي ظل يخدمه بقلمه الرشيق هذا، كان يمكن أن يتوقف عند بناء القرية الجديدة ويترك الحكم النهائي للأجيال. كم كان رائعاً «فنياً» لوأن المؤلفين تركا الأهالي وقد تفرقوا في أحضان الجبال وتركوا المحاكمات السياسية للقاريء! أثناء كتابة رواية الشمندورة التي كتبت في سجون عبد الناصر وسربت إلى الخارج في أوراق سجائر لف!! كان الطوفان الأكبر يجتاح بلاد النوبة وهو أكبر بكثير من طوفان 1934م . ربما كان من الأفضل لو صور المهجرين وهم يقفزون إلى المجهول دون أن يرسم لهم حلولاً، كضرورة التعليم وهي في الأصل مفهومة بالضرورة ولا تحتاج إلى الإبراز. ولكن هذه القامة الفنية السامقة لا نملك إلا أن نمرر لها إرادتها ونتهم أذواقنا. ونقول بأنه أراد أن يقرن قضاياه الشخصية بقضايا قومه، وقد نجح بالفعل في ذلك حينما اتخذ (الشمندورة) كوعاء حمل في جوفه قضايا المؤلف الشخصية وقضايا المجتمع النوبي، وظهرت (الشمندورة)وهي تقاوم الأمواج رمزاً للنضال النوبي الذي لا يهدأ.