رأيت أن أستهل مشواري.. القديم الجديد.. مع عروس الصحافة «آخر لحظة» وقد أشرق فيها عهد جديد تبوأ خلاله صديقنا الأستاذ عبد العظيم صالح، سُدة الرئاسة، بعد أن ترجل عن صهوتها الأستاذ مصطفى أبو العزائم بعد سنوات من الكد والتعب والعرق المسكوب، الكتابة لصحيفة مثل آخر لحظة ذات قيمة، تحمل بين طياتها كثيراً من الدلالات والنقاط المضيئة التي تعبر عن نهج الصحيفة وأسلوبها وقدرتها على اجتذاب القاريء بموادها الدسمة وطرحها الشفيف. قبل أيام، أحرز مركز د. راشد دياب للثقافة والفنون، هدفاً غالياً، أصاب به مرمى التجاهل والنسيان الذي ضرب سياجاً منيعاً حول عدد من رموز الإبداع، الذين تمدد عطاؤهم ليغرق الساحات، بما حفلت به مسيرتهم التي اتصفت بالتفرد وغزير العطاء في كثير من المجالات.. عمد المركز وإدارته النشطة إلى تكريم شيخ النقاد الفنيين الأستاذ ميرغني البكري، وسط حضور نوعي ضاقت بأعداده أرجاء المكان رغم سعتها، الصحافي الشهير ميرغني البكري، شيخ النقاد ورائدهم على الإطلاق، ولج دنيا الصحافة قبل حلول عقد الخمسينيات بعام واحد، عبر مقال اجتماعي أرسله بالبريد لجريدة صوت السودان التي كان يرأس تحريرها المرحوم محمد أحمد السلمابي، كان عنوان المقال «التحرش بالنساء داخل الترام» سبحان الله هل كان البكري يقرأ مآلات المستقبل من قبل أكثر من ستين عاماً؟.. قبل أن يصبح التحرش في زماننا هذا بعبعاً مخيفاً يلقي بظلاله القاتمة على الأطفال والنساء في المدارس والشوارع والأسواق، على نحو ما سمعنا وقرأنا عن بعض التصرفات الطائشة التي يجافيها الخلق ويمقتها ديننا الحنيف، دخل البكري سوح الإعلام صبياً يافعاً يتملكه عنفوان الصبا وزهو الشباب تغلبت عليه موهبته التي قادته لارتياد كثير من دوائر العمل الإعلامي بدأها بالتلغراف، ثم صحيفة الأيام فور صدورها عام 1952م كاتباً في مجال النقد الرياضي، جنباً إلى جنب مع عدد من الكتاب من بينهم تاجر الأقمشة المعروف عدلي بخيت أبو طيارة، كتب البكري على صفحات الأيام أول مقالاته النارية التي أرغمت الحاكم العام وقتها «روبرت هاو» للجلوس، كانت المباراة بين فريقي النقل الميكانيكي والكشافة على كأس الحاكم العام، كانت سبباً في انضمام عدد من اللاعبين إلى فريق الترسانة المصري، كان النقد الرياضي وقتها يؤدي رسالته بحيادية تامة، دون الميل إلى فريق بعينه، إلى أن سلخت جريدة الناس جلدها، وغيرت نهجها، وأفسحت المجال واسعاً لبعض كتابها لإظهار ولائهم وتحيزهم.. فجأت كتابات الشاعر مرسي صالح سراج، والسر أحمد قدور قانية حمراء لتقريظ فريق المريخ، لحظتها انفلت البكري من ساحة النقد الرياضي ويمم وجهه صوب المجال الفني رغم أنه الأول الذي نشر أول صفحة رياضية يومية بجريدة الزمان، عندما أعلن الشاعر حسين عثمان منصور، بداية صدور مجلته الأسبوعية «الصباح الجديد» بعد الاستقلال، هرع إليه ميرغني البكري ونزل بساحته في عام 1985م مزاملاً لعدد من الصحافيين من بينهم، حسان سعد الدين، علي المك، علي شمو، آمنة بنت وهب، آمال عباس، وفاطمة عبد المحمود، سليمان عبد الجليل، النعمان على الله، كوركين أسكنرديان، عمر عبد التام، عمر حسن، أدهم أحمد علي، وغيرهم من أصحاب الأقلام الذين أحالوا الصباح الجديد إلى واحة ظليلة لا يجد القاريء بداً ولا فكاكاً من مطالعة موادها سطراً سطراً، يعتبر الأستاذ ميرغني البكري من جيل تدين له كل الأجيال بالفضل الكبير، فقد وصفه البروفيسور علي شمو «في الليلة ديك» بالعصامي صاحب التجربة الثرة، فقد بنى مجده وصنع اسمه، دون أن يعتمد على أحد، أختط للآخرين طريقاً واضحاً بعيداً عن القدح والتشفي والخدش وركاكة الأسلوب، فيما وصفه الباحث بشرى النور، بالأمدرماني العريق، الذي بذل روحه ووقته لخدمة الآخرين، كان البكري وما يزال منارة يهتدي إاليها الفنانون، رعى الكثيرين منهم حتى حققوا الشهرة والاسم، ونعت بعضهم بعدد من الألقاب، ما زالت تجري على الألسنة إلى يوم الناس هذا، كالأمير لصديق منزول، والعميد لأحمد المصطفى، والباشكاتب لمحمد الأمين، والهرم لعثمان حسين، والأستاذ للعاقب محمد حسن، وأبو الفن لإبراهيم الكاشف وغيرهم. التكريم الذي ناله ميرغني البكري بمركز راشد دياب تكريم مستحق، يدعمه تاريخ الرجل وبلاؤه الملحوظ في عالم الصحافة الذي زاد عن ستين عاماً مما تعدون، الآن، بعد أن أطلق د. دياب المبادرة، وعمل ما في وسعه واستطاعته مَنْ يبادر لتكريم البكري بصورة توازي تاريخه تماماً، وتحفظ له دوره وماء وجهه فهو جزء من تاريخنا التليد، لا يمكن نسيه أو تجاهله. التحية لمركز راشد دياب الذي سبق الآخرين، والتجلة للدكتور التجاني الأصم، الذي أعلن عن تكفله بطباعة سِفر البكري الموعود، ولك يا أستاذنا من اللّه الصحة وطول العمر المديد. يا البكري ياريت الأجيال عن دورك تدري