٭ حدث تاريخي، بكل المقاييس، ذلك الذي شهدته قاعة الكابيتول-هِلْ بواشطن دي سي أمس الأول (الثلاثاء).. فمهما شطح الخيال بأي مراقب ومتابع للعلاقات الاسرائيلية الأمريكية- وتقديم اسرائيل هنا مقصود-يمكن ان يتوقع حدوث شيء من هذا القبيل. ٭ سمعنا وقرأنا بل وعايشنا ابان اقامتنا بالولاياتالمتحدة سطوة اللوبيات وجماعات الضغط الصهيونية على صناع القرار الامريكي في البيت الابيض او في مجلس الشيوخ ومجلس النواب او في الاعلام ودوائر المال او في مراكز البحوث والدراسات التي يسميها الامريكان (الثنك تانكس) اي «مستودعات التفكير»، لكن لم يرد على خاطرنا أبداً أن نشهد يوماً يتحول فيه الكونجرس بمجلسيه -الشيوخ والنواب- الى (جوغة كومبارس) تقف للتصفق عند نهاية كل جملة او فقرة من خطاب رئيس وزراء دولة لا يساوي حجمها -مساحة وسكاناً- اصغر ولاية من الولاياتالامريكية الخمسين.. فقد تكرر مشهد الكومبارس العجيب لاكثر من 25 مرة! ٭ مفارقة فوق الخيال.. أن يحدث ما حدث برغم انف الادارة الامريكية ورئيسها باراك أوباما ووزير خارجيتها جون كيري ومستشارة أمنها القومي سوزان رايس.. فبنجامين نتنياهو لم يستأذن أحداً من رموز وأعضاء الهيئة التنفيذية الامريكية (المبجلة) بأنه قادم الى بلادهم لمخاطبة الكونجرس في شأن الاتفاق النووي بين واشنطنوطهران، بل رتب امر زيارته ومخاطبته مع رئيس الكونجرس مباشرة الذي دعا نواب الحزبين، الجمهوري والديموقراطي في المجلسين لحضور الجلسة المشتركة والاستماع لما سيقوله الضيف -غير المحترم- نتنياهو ولم يغب سوى عشرين بالمائة، اي ستين نائباً كلهم من الديموقراطيين.. ما يعني ان نتنياهو يقول لاوباما بالفم الملان: هذه البلد التي اختارتك رئيساً، في غفلة من الزمن، هي بلدنا وهذا الكونجرس بمجلسيه هو لي.. و(بتاعي أنا) يأتمر بأمري الصادر عبر البحار والمحيطات ويجتمع ليسمعني باغلبية غالبة تصل الى ثمانين في المائة حتى لو تمنعت انت ومن شايعوك والذين لم يتجاوزوا خمس الاعضاء.. انها صفعة مدوية في وجه اوباما وادارته لم يشهد تاريخ الولاياتالمتحدة مثيلاً لها قديماً او حديثاً.. انه الاعلان الصارخ عن فقدان اكبر قوة في العالم المعاصر لارادتها امام اصغر دولة فيه.. فالامر تخطى مقولة (التحالف الاستراتيجي) بين الولاياتالمتحدة واسرائيل الى علاقة تبعية معلنة وببجاحة غير مسبوقة.. تبعية الأكبر والأقوى للأصغر والأضعف.. يا للهول! ٭ ومن خلال متابعتنا لوقائع الجلسة الهزلية وخطاب نتنياهو الذي استغرق من الوقت ساعة كاملة.. وكان التعقيب الوحيد من قبل النواب الامريكيين «المحترمين» هو تكرار الوقوف والتصفيق.. حتى اشفقنا على كبار السن منهم من (الرياضة العنيفة) التي فرضوها على انفسهم او فُرضت عليهم.. فمن خلال متابعتنا لما قاله السفاح نتنياهو هو التحذير من الاتفاق بين ايرانوالولاياتالمتحدة ولجنة الخمسة+واحد التي تفاوض طهران، لانه وبحسب ما قال سيكون (اتفاقاً سيئاً) يفتح الطريق لايران لامتلاك القنبلة الذرية ويهدد السلام العالمي.. وان (اللا اتفاق افضل من اتفاق سيء) كما قال.. ومضى نتنياهو يعزف على الاسطوانة القديمة والمشروخة حول ما تعرض له اليهود ابان الحرب العالمية الثانية من قبل النازية والفاشية في اوربا، لدرجة استحضاره احد الناجين من تلك الحرب ومن الحائزين على (جائزة نوبل) الى قاعة الكونجرس ليعرض لهم (عينة) مما اصابهم في تلك الحرب، كما اشار الى صورة النبي موسى وكلماته المعلقة على جدران القاعة ليستشهد بها على مصير البشرية المرتبط في نظره بمصير اليهود.. تلك الكلمات التي تمثل في حد ذاتها دليلاً آخر على سيطرة الصهيونية وسطوتها على العقل الامريكي بلا منازع. ٭ تتبعت من ثم، ردود الافعال على الخطاب في العديد من الفضائيات وكان اهمها ندوة عقدتها على عجل قناة (فرنسا 24)، كشف المتحدثون خلالها عن ان نتنياهو، وبرغم تلك «الانتفاشة» التي تحاكي رياء (صولة الاسد) الا انه لم يأت بجديد في (القضية) موضوع الحديث، وتفادى عن عمد تقديم اية تفاصيل تتصل بالمفاوضات الجارية بين الولاياتالمتحدة ولجنة الخمسة+واحد، وذلك نزولاً عند تحذير كيري والادارة الامريكية له بعدم التعرض لكشف ما يدور في تلك المفاوضات وما توفر له من معلومات عبر التعاون الوثيق بين المخابرات الامريكية والموساد.. كما انه في غمرة تلك الهوجة و(الانتفاشة) لم ينس ان يُشيد بما قدمه الرئيس اوباما من دعم ومساندة لا محدودة لاسرائيل وامنها ومشاريعها.. وفي مقدمتها طبعاً مشروع التوسع الاستيطاني في الاراضي المحتلة.. فهو لم يرد ان (يكسر الجرة) كما قال بعضهم وبخبث الصهيونية اراد الحفاظ على (شعرة معاوية) مع الادارة الامريكية الجريحة بفعل اللطمة المدوية التي تلقتها منه. ٭ لم يترك نتنياهو اساءة لم يوجها لطهران، فوصفها بأنها دولة دينية تعتمد ولاية الفقيه وتعمل على تصدير الثورة، وانها تبحث عن القنبلة النووية لتؤمن اطماعها الاقليمية في المنطقة العربية التي احتلت اربع من عواصمها حتى الان هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وقال انها اذا ما تمكنت من حيازة الاسلحة الذرية فلن تستطيع دولة في الاقليم من مواجهة تمددها، وعندها سيصبح الشرق الاوسط منطلقاً لتهديد سلام العالم.. المفارقة ان تلفزيون طهران الرسمي هو كان أسعد الفضائيات بخطاب نتنياهو.. فعمد الى بثه على الهواء مباشرة.. فليس بامكان إيران طبعاً الحصول على دعاية مجانية أكثر مما فعل نتنياهو بالمؤسسة التشريعية للولايات المتحدة! ٭ لم يفتح الله على اي من شيوخ او نواب الكونجرس ان يسأل اوباما عن امتلاك بلاده للسلاح النووي، الذي بلغ حسب ما هو معلن ومنشور نحو مائتي رأس نووي، ولم يسأله احد عما جرى ويجري من تطوير وانتاج في مفاعل ديمونة.. كما لم يفتح الله على اي منهم ان يسأله مجرد سؤال كيف يهدد السلاح النووي الايراني اسرائيل التي يعيش بين ظهرانيها وتحت احتلالها الفلسطينيون، وهل يمكن لصاروخ برأس نووي ان يستثني او يفرز بين الصيهوني والعربي.. وحق لهم ان لا يسألوا مثل تلك الاسئلة الحرجة ما دام الحكاية كلها زفة ومسرحية هزلية وكوميديا سوداء قد تساعد نتنياهو في حملته الانتخابية المقبلة، بعد ان امضى دورة كاملة من الاخفاقات على جميع المستويات، اقتصادياً واجتماعياً، وحتى عسكرياً، عندما خاض اشرس الحروب ضد غزة فقتل البشر ودمر الحجر واحرق الشجر وارتكب فيها الفظائع التي يندي لها الجبين وعاد جيشه يجرجر أذيال الخيبة.. ومع ذلك.. مع ذلك لم يفتح الله على اي من اعضاء الكونجرس (الواقفين المصفقين) ان يسأل نتنياهو: ما هذا الذي فعلته بغزة واهلها؟! ٭ انه عجز الكبير والقوي أمام الصغير والضعيف.. ولله في خلقه شؤون!!