الكرامات التي موضوعها الخمر، أو(المريسة)، يمكن أن تؤخذ مثالاً على سيادة روح التسامح الديني في الإسلام السوداني، فقد اقترح الصوفية موقفاً، أو فتوى متوازنة حيال الخمر، فلم تُبَح عندهم كما أُبيحت في المسيحية، ولم يأخذوا بتشدد المالكية في العِقاب.. وكما لم يقبلوا المدمن، لم يحدوه أيضاً، بل اتجهوا إلى ترفيعه من إبتلائه بها.. و بعض المشايخ يرى أن المريسة ليست خمراً محرماً، وأن تصفيتها، وشُربها، وصبّها على قبر الولي، أمر جائز.. أي حلال..«كتاباً وسنة واجماعاً».. هكذا يقول ود ضيف الله في مدونه الفريد.. أنظر:الطبقات، ص 277 والتعاطي مع المريسة، على هذا النحو، أي «صبّ المريسة على القبر»، يشيء ببقايا إرث حضارة وادي النيل في حركة التصوف السوداني، وهو سلوك يتسق مع عادة الأسلاف في إطعام الأرواح.. وقد كان من عادة بائعات المريسة في العيلفون،أن ترفع الرّاية أو «البيرق»، على باب المنزل، وتجلس عندها تنادي بأعلى صوتها: «يا شيخ ادريس يا راجل الفدّة والمَدّة، تلحقنا وتفزعنا، وتبيع لي مريستي»،، فيجتمع الناس عندها، فتخرج من المريسة ملء قدر، فتسقيهم إيّاه مجاناً، تصدقاً على روح الشيخ إدريس، ثم تشرع في بيع الباقي بالثمن.. أنظر: نعوم شقير، تاريخ السودان، تحقيق محمد ابراهيم ابوسليم، دار الجيل، بيروت، 1981، ص120 كما تتعارف بعض الخلاوي في غرب السودان على «مريسة الختمة»، التي يشربها المشايخ والحيران حين ختم قراءة القرآن، ومثل ذلك تناول «الشربوت، والدكّاي» في الأعياد الدينية.. من هنا يتم قبول المريسة دون تنطُّع فقهي، في الكثير من ربوع السودان، حيث ينظر اليها كغِذاء، أو بالأحرى «فكّة رِيق».. ولعل غضّ الصوفية الطرف عن المريسة، كان بمثابة البداية للترفيع، أو هو الإباحة، أو «التحليل» الذي تطلّبه ظرفهم التاريخي،، بمعني أن تلك الإباحة، أو ذلك «التّساهُل»، كان وضعاً انتقالياً واستحضاراً لفكرة تدرج التشريع الإسلامي في اجتناب الخمر.. بدأ الصوفية في انتشال الناس من الركون إلى الخمر بأن جعلوا من المريسة نفسها، إحدى بوابات الدخول في طريق القوم والاستغراق في السكر الروحي، أي كأنهم كانوا يهتفون في دنيا النّاس، بالعقيدة الجديدة، التي تتقبّل العليل من أجل علاجه واستدراجه باتّجاه التحرر من سُلطان العادة.. وفي هذا المعني، ورد أن الشيخ محمّد الهميم ود عبد الصّادق، قد سقى مدمناً للخمر، هو سلمان الطوّالي، «عسلا مشْنوناً»،، لأن سلمان سَقى تلامذة الشيخ الهميم، من قربة ماءٍ كان يحملها على ظهره لترقيق المريسة.. «قال له الشيخ محمد، الله يملاك دِينْ، فتاب واستغرب ولحِق بالشيخ.. سلكه الطريق.. فانجذب، وغرِق، وسَكِر، ولبِس الجُّبة..» هكذا وقعَ الانتشال، مباشرة، بالدعوة الصالحة،، فتحول المُدمِن إلى مُريد، وترقى المُريد الى شيخ يُحظى بالأحوال والمقامات الرّفيعة.. أنظر: الطبقات: ص 218 في مشهد آخر، كانت «الإشارة» من أصبع الشيخ المسلمي الصغير، في وجه من أُبْتُلِيّ بالمريسة والتنباك بمثابة «الفتح»..! فقد كان الشيخ المسلمي يتحاشى صُحبة أحد أصهاره، خشية أن يعيّره الناس به، لأن ذلك الصهر، كان «مرّاسياً وتَنْباكياً».. وذات يوم، «أشار إليه بأصبعه السبّابة، فوقع مغشياً عليه، فلما أفاقَ، جعل يقول لا إله إلا الله، ولم يفْتُر عنها، حتى فارق الدنيا».. وفِعل «الإشارة» ثابت عند الصّوفية، بنص الحديث القُدسي: «عبدي أطعني اجعلك ربانياً تقول للشيء كن فيكون».. أنظر: الشيخ محمد الكسنزاني، التصوف، ص9. هذه نماذج من الكرامات التي تشي برؤية التصوف المُتصالحة مع الآخر، وهي رؤية ذات مضامين حضارية، تجعل غُلوّ السلفيين، مرفوضاً وغُريباً، في مُجتمع السودان المُتسامح..