10 في تلك الأثناء اكتمل وتمّ نشر تقريرين عالميين مهمين عن حوض النيل. تمّ إعداد التقرير الأول بناءً على طلبٍ من وزراء مياه دول حوض النيل الشرقي أنفسهم عام 2008. وقد استند التقرير، الذي أعدّه مجموعةٌ من الخبراء الدوليين، على ضرورة التعاون بين الدول الثلاثة والاستفادة من الطاقة الكهربائية الضخمة في إثيوبيا، والري في السودان، وإمكانيات مصر في الصناعات الغذائية. ثم صدر التقرير الثاني من معهد ماسشتوشس للتكنولوجيا (المعروف اختصاراً باسم ام آي تي) في نوفمبر عام 2014، مؤكّداً على حق إثيوبيا في استخدام مياه النيل للتنمية، وداعياً للتعاون والاستفادة من الطاقة الكهربائية لسد النهضة، مع ضرورة التنسيق في تشغيل سد النهضة والسد العالي، ومعالجة القصور في السد المساعد لسد النهضة. وقد أعدّ التقرير 17 من الخبراء الدوليين في موارد المياه المشهود لهم بالكفاءة والحيادية، من بينهم عددٌ من الخبراء في مياه النيل. وقد تم التعامل مع التقريرين في الخرطوم والقاهرة بقدرٍ كبيرٍ من الارتباك، بينما سعدت إثيوبيا كثيراً بمضمون وتوصيات التقريرين. وقد ساهم ذلك التقريران، والارتباك المصري السوداني، كثيراً في دعم وتقوية الاستراتيجية الإثيوبية. 11 وقد برز الارتباك المصري السوداني تجاه سد النهضة واستراتيجية إثيوبيا منذ البداية. ثم تصاعد ذلك الارتباك مع الاجتماعات التي عقدها وزراء المياه للدول الثلاثة في الفترة من نوفمبر 2011 وحتى مارس 2015، والتي بلغت سبع اجتماعات. فقد أعلنت مصر والسودان رفضهما التام والقاطع للسد عام 2011. ثم عادت الدولتان وطالبتا إثيوبيا بمدّهما بالدراسات الفنية والبيئية لتقييم آثار السد عليهما. ثم وافقتا في الاشتراك في لجنة الخبراء الدولية التي اقتصرت مرجعيتها على دراسة الآثار السالبة للسد على السودان ومصر فقط، مما يعني القبول الضمني للسد من مصر والسودان. ثم عادت مصر وطالبت في شهر نوفمبر عام 2013 بوقف بناء السد حتى تكتمل الدراسات التي أوصت بها لجنة الخبراء. في تلك الأثناء وصلت الكهرباء الإثيوبية السودان لأول مرة مؤكدةً فوائد السدود الإثيوبية على السودان، مما حدى بالسودان لتأييد سد النهضة على لسان رئيس الجمهورية نفسه في 4 ديسمبر عام 2013، مغلقاً الباب أمام تصريحات «الخبراء الدوليين الجدد» المعارضة للسد. وهكذا نجحت الاستراتيجية الإثيوبية في خلق شرخٍ كبير وحاد في التكتل المصري السوداني الذي برز للوجود عام 1959، إثر التوقيع على اتفاقية مياه النيل ذلك العام. وكان ذلك الشرخ في الحلف المصري السوداني إنجازاً كبيراً للاستراتيجية الإثيوبية. ثم عادت مصر وسحبت طلبها بوقف بناء السد حتى تكتمل الدراسات عندما التقى الرئيسان السيسي وديسالين في مدينة مالابو عاصمة غينيا الإستوائية أثناء قمة الاتحاد الأفريقي في شهر يونيو عام 2014. وتواصل بناء السد رغم رهان مصر على عجز إثيوبيا في الحصول على التمويل اللازم، واكتمل أكثر من 40% من أعمال السد. وأصبح وضحاً أن سد النهضة قد أصبح حقيقةً ماثلة لا تقبل النكران أو الجدل. كما وضح لمصر عزلتها التي كانت تزداد كل يوم. كانت تلك الحقائق والخلفيات (والتي أوضحت نجاح الاستراتيجية الإثيوبية) كافيةً لأن تقود إلى اتفاقية 23 مارس عام 2015. 12 إن التعاون هو المرتكز الأساسي والوحيد للاستفادة من مياه أي موردٍ مائيٍ مشترك. وقد أكّد التاريخ تلك الحقيقة مراراً. فقد بنتْ دول نهر السنغال الأربعة (السنغال وموريتانيا ومالي وغينيا) سدّين على نهر السنغال (ماكا دياما ومانانتالي). وتتشارك هذه الدول منافع السدّين من كهرباء ومياه ري ومياه شرب ووقفٍ للفيضانات. كما بنتْ البرازيل وبرغواي سد إبتايبو على نهر بارانا لتوليد الطاقة الكهربائية للبلدين وبيع جزءٍ منها لدولة الأرجنتين. وتدير دول نهر النيجر العشرة النهر من خلال المفوضية المشتركة، ويدرّ عليها ذلك الكثير من المنافع، خصوصاً في مسألة الملاحة ودرء الفيضانات. وكما ذكرنا مراراً فقد أكدت اتفاقية الأممالمتحدة للمجاري المائية الدولية التي دخلت حيز النفاذ في 17 أغسطس عام 2014 مبدأ التعاون. وتشمل الاتفاقية كلمة التعاون ومشتقاتها حوالي خمس عشرة مرة. وقد صادقت على الاتفاقية حتى الآن 36 دولة. 13 كان يمكن أن يكون سد النهضة، بقدرٍ من التعاون، البديل للسد العالي وخزان الروصيرص عام 1959. فقد كان يمكن لذلك القرار أن يُجنّبَ السودانَ النتائج الكارثية للسد العالي التي تمثّلت في إغراق مدينة وادي حلفا و27 من قراها، و200,000 فدان من الأراضي الزراعية الخصبة، وأراضي أخرى بنفس المساحة كان يمكن استصلاحها، وأكثر من مليون شجرة نخيل وحوامض في قمة عطائها، والترحيل القسري لأكثر من 50,000 من السودانيين النوبيين. وكان يمكن أن يجنّبَ مصرَ نفس النتائج والتي شملت الترحيل القسري لأكثر من 70,000 من النوبيين المصريين، وإغراق أراضي زراعية خصبة وضخمة تحتاج مصر لكل شبرٍ منها. وكان يمكن لسد النهضة لو تم بدء بنائه عام 1959 أن يحقّق لمصر والسودان ما حقّقه السد العالي وخزان الروصيرص من كهرباء ومياه ري ووقفٍ للفيضانات، بدون الكوارث الاجتماعية والبيئية والتكلفة المالية الضخمة للسد العالي وخزان الروصيرص. لكن بسبب غياب التعاون لم يتم ذلك. ثم كان يمكن أن يكون سد النهضة مشروعاً مشتركا في الملكية والإدارة والمنافع بين الدول الثلاثة، كما عرضت إثيوبيا بقدرٍ كبيرٍ من الروح التعاونية عام 2011. لكن مصر والسودان تجاهلتا ذلك العرض، والذي وضح الآن أن الزمن قد تجاوزه. 14 غير أن الاستراتيجية الإثيوبية (والتي أدارها خبراء بحنكةٍ ودرايةٍ كبيرتين) نجحت في تأكيد ضرورة التعاون، وفي فرضه كسياسة الأمر الواقع. كما نجحت إثيوبيا من خلال استراتيجية وبرنامجٍ متكاملين في فرض سد النهضة كحقيقة واقعة، قبلته مصر والسودان صراحةً وبدون مواراة في وثيقةٍ حملت توقيع رئيسي جمهورية البلدين يوم 23 مارس عام 2015. وذهبت الدولتان أبعد من هذا عندما وافقتا في نفس الوثيقة على شراء الكهرباء التي سينتجها السد. لكن هذا المنحى التعاوني الوليد الجديد يجب أن يمتد ليشمل كل دول الحوض الإحدى عشر، ويتم تأكيده وتأطيره من خلال قبول السودان ومصر لاتفاقية عنتبي لحوض النيل. فاتفاقية عنتبي مبنيةٌ على التعاون والمنافع المشتركة، وليس بها محاصصةٌ أو توزيعٌ لمياه النيل، كما يروّج البعض. بل إن التعاون هو الطريق الوحيد للخروج بشعوب حوض النيل، والذين يفوق عددهم 250 مليون نسمة، من التخلّف والفقر والجوع والظلام والعطش الذي يسود معظم أرجاء الحوض، ويزداد كل يومٍ مع الزيادة السكانية لدول حوض النيل . اكاديمي وخبير في قانون المياده