٭ لكن اللافت، في هذا النزاع المستطير والمستطيل، هو أن تطويع الدين، المنصوص عليه صراحة في الكتاب والسنة، أو ذلك الموضوع من قبل المتنازعين والمطعون في صحته، لم يقتصر فقط على الشيعة الغلاة، فقد كان هناك استثناء حتى بين أهل السنة والظاهرية، حيث أن قلة منهم قالوا أن الخلافة كانت «بالنص» من النبي صلى الله عليه وسلم، لأبي أبكر الصديق، ورأت هذه القلة التي سميت ب «البكرية» مستندين إلى تقديم الرسول الأعظم لأبي بكر ليؤم الناس في الصلاة عند مرضه الأخير، وبرغم أن شيخاً كابن حزم الظاهري يتفق مع «البكرية» في ما ذهبوا إليه من «الوصية» لأبي بكر رضى الله عنه، إلا أنه رفض أن يكون تنصيب أبي بكر خليفة قد تم بناءاً على قياسهم الخلافة على إمامة الصلاة التي قدمه فيها الرسول قبل وفاته، لأن الخلافة هي الأصل، وإمامة الصلاة فرع عنها «ولا يقاس الأصل على فرعه» كما قال .. ويرفض أيضاً الاستدلال بأحاديث «الآحاد» - أي غير المتواترة والتي لم يقل بها غير واحد من الناس - التي استندت إليها «البكرية» في القول بالنص لأبي بكر .. ومع ذلك فإبن حزم يرى رأيهم ويقول بأنه لا بد أن يكون هناك نص وإن لم يشر إليه صراحة مكتفياً بأنه إن لم يكن هناك نص لما وقع الخلاف الذي وقع في «سقيفة بني ساعدة» بين الأنصار والمهاجرين .. وحسبنا في كل هذا أنه حتى بين أهل السنة هناك من لجأ لتطويع الدين ونصوصه، ثابتة أو مظنونة من أجل الدفاع عن وجهة نظره وخدمة أجندته كالبكرية ومن قبلهم الشيعة على وجه العموم .. ٭ وكما شذَّت البكرية عن صفوف أهل السنة وأصحاب الحديث فقالت بالنص لأبي بكر شذَّت «الراوندية» - أو العباسية - من صفوف الشيعة، فلم تقل مع جمهور الشيعة بالنص لعلي بن أبي طالب رضى الله عنه، وإنما قالت إن الإمامة طريقها الإرث، وإن العم الوارث هنا وهو العباس بن عبدالمطلب، ومن بعده أولاده .. ومؤرخو المقالات يذكرون، أحياناً، أن الراوندية تقول ب «النص» على العباس وولده، ونشأت الراوندية لتبرر اسئثار العباسيين بالخلافة دون العلويين، وكان ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري .. وقد كان لهم بالفعل ما أرادوا، حيث تمكنوا في آخر الأمر من انتزاع الخلافة من بني أمية وأقاموا دولة بني العباس منطلقين بثورتهم من بلاد فارس باتجاه العراق وجزيرة العرب والشام. ٭ ما يهمنا هنا هو أن نؤكد استناداً إلى شواهد تاريخية ثابتة أن الصراع على السلطة، ليس من بين مرتكزاته، كما يروج البعض في دعايته السياسية، هو الانتصار للدين أو حتى للعدل والأخلاق، إنما أهدافه دنيوية، تخدم أجندة فرقة أو جماعة أو عشيرة وأغراضها من الوصول إلى السلطة والاستمتاع بما تهيئه لهم من مكتسبات ومنافع ذاتية .. وأكبر دليل ومثال في هذا هو تأويل النصوص الدينية لخدمة تلك الأهداف كما يفعل الشيعة عندما يفسرون القرآن .. فآيات القرآن التي تتحدث عن «المؤمنين وأهل الذكر وعن قوم محمد وآله وعن المهتدين والمتقين .. الخ» يراها المعتزلة وغيرهم من الفرق غير الشيعية مراداً بها «أمة الإسلام» بينما يراها الشيعة خاصة بأفراد قلة، هم علي وفاطمة والحسن والحسين ونسلهم من بعدهم .. فهم فقط من عناهم القرآن وسماهم ووصفهم بهذه الأسماء والصفات. ٭ فمثلاً، عندما يقول القرآن الكريم «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» ، «فالناس عند الشيعة هم «آل محمد» الذين آتاهم الله الفضل وحدهم و»الفضل» يفسرونه هنا ب «الأمامة» .. وعندما يقول القرآن «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» فالخطاب عندهم ليس للأمة، وإنما لآل البيت خاصة، يطلب من الإمام الأول أن يؤدي الأمانة، التي هي الكتب والعلم والسلاح، إلى الإمام الذي يليه .. وعندما يقول القرآن : «إنما الله وليكم ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» فإن الذين آمنوا، هم برأى الشيعة آل محمد فقط!. ٭ نعم، تاريخنا يقول إن الدين وُظف دائماً لخدمة السلطة، ولم تكن السلطة بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في خدمة الدين أو العدل أو لمصالح الأمة، إلا من رحم ربي!