المحل كان يسع الجميع تظللنا هذه الأيام ذكرى رحيل المفكر والمناضل اليساري الخاتم عدلان العاشرة بعد حياة حافلة بالعطاء الفكري والتدافع السياسي توجهاً بتأسيس حركة القوى الجديدة الديمقراطية «حق» مع آخرين أبرزهم الحاج وراق.. والتي لم تلبس أن تقسمت إلى عدة تيارات سياسية، وتركت ذكريات مرة عند كل من انتسب إليها أو تعاطف مع طرحها الجديد على الساحة السياسية والمتميز عنها إيجاباً كما شهد بذلك أفضل المراقبين في الساحة السياسية وقتها في أواسط تسعينيات القرن المنصرم ومنهم السيد منصور خالد، ومثلما وجدت أطروحة الخاتم من يناصرها كان لها أيضاً نصيب من الاختلاف وقد كان كاتب هذه السطور يقف على الضفة الأخرى منها وهذا شيء طبيعي، فالرجل لم يدعِ لنفسه عصمة وهو الذي خرج على القوى القديمة ويعلم أنه بمثلما تدين تدان، كما لم يكن دافعنا للكتابة عنه في هذا الوقت بالذات هو توضيح الخلاف معه وهو خلاف على كل حال موثق في صحافة تلك الفترة ويمكن الرجوع إليه، لكننا قصدنا إلى شيء آخر، وهو الطريقة التي أدير بها الخلاف ولا نريد أن نلقي باللائمة على الرجل، ليس لأنه لا يستطيع الرد علينا، مع أن له أنصاراً قادرين على ذلك، ولكننا لا نستطيع أن نبريء أنفسنا ولا كل الذين اشتركوا في هذا الخلاف، ومجملاً نقول إن الخلاف قد أدير بطريقة إدارية استوحت روح الخدمة المدنية أكثر من أفق السياسة، كما أن تلك الطريقة أوضحت مجافاة ما حدث لطبيعة الحركة، فقد كنا نبحث عن الانسجام والوحدة الفكرية والسياسية لحركة مبرر وجودها هو إدارة التعدد، وكان من الأجدر بها أن ترعى ذلك التعدد في داخلها لتقديم نموذج عملي لإمكانية إدارة التعدد في السودان، لكننا في هذه الناحية لم نتميز عن طرائق تفكير القوى القديمة، والتي فشلت في إدارة السودان لأنها لم تعترف بحقيقة التعدد وضرورة الحفاظ عليه وحمايته ولكنها عمدت إلى فرض مفاهيم بعينها على واقع لا يقبلها وأقصت تصورات فكرية وثقافية ونظم معرفية أخرى، فكان الحريق الذي عم كل السودان وكان من المأمول أن نتمايز عنها نحن الذين طرحنا سؤال الهوية بقوة وعملنا على إعادة الاعتبار للبعد الأفريقي في تكوين بلادنا الوطني دون أن يعني ذلك إبعاداً للمكونات الأخرى. كانت الحركة تسع تصورات الخاتم عن العمل المسلح إلى جانب تصورات وراق عن المقاومة المدنية باحتمالات مثل الانتفاضة السلمية أو التسوية السياسية لمسببات الأزمة الوطنية الشاملة خاصة وأن الخاتم بعد توقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005 قد عاد لأرض الوطن واندرج بجناح الحركة الذي ترأسه في عملية التسوية السياسية، كما أن الحاج وراق قد توصل من خلال التجربة إلى أن استصحاب العمل المسلح في العمل السياسي ليس خطأ مطلقاً خاصة وأنه الآن أصبح أكثر حدة في مواجهة النظام، إذ أن كلا تياري الحركة عادا واعترفا بأن خيار الآخر لم يكن كله خطأ وكان يمكن استصحابه في السابق دون أن تتقسم الحركة الوليدة، وقد أخذتني المفارقة إلى دومة ود حامد للروائي السوداني الطيّب صالح، فحين سأل الصبي الراوي متى ستتوقف الباخرة في قريتكم؟.. أجاب الراوي «حين ينام الناس ويصحون ولا يرون الدومة في أحلامهم»، ثم أردف «لكن ما فات على هؤلاء القوم أن المكان كان يسع الجميع، طلمبة المياه، محطة الباخرة والدومة» لكننا لم نفعل في وقتها ولا مانع من نحاول مرة أخرى.