لعله من السابق لأوانه الحديث عن إطار عام للتسوية السياسية المرتقبة، وإن كان ذلك الإطار أخذ في التشكل بضغوط دولية واقليمية، لكن نسبة (للكلكة) التي يتعامل بها اللاعبون المحليون من حكومة ومعارضة مع القضية، نستطيع الحديث فقط عن اتجاه للتسوية السياسية، وفي هذا الاتجاه تبرز قوى سياسية تقف مع التغيير الشكلي الذي يستبدل (زيد بعبيد)، لكنه لا يطال البنيات الأساسية التي يقوم عليها النظام، والدليل على ماذهبنا إليه أن الإنقاذ استعانت بخبرات من تلك القوى طيلة مسيرتها، لكن الحال لم ينصلح، بل في بعض الأحيان كان آداء بعض التنفيذيين الإسلاميين بالأصالة أفضل من آداء القادمين مثل ماقام به أحمد هارون في الأبيض، وهذه القوى إذا قامت بالمشاركة في رسم إطار التسوية فإن الأمر في تقديري أفضل أن يترك للإنقاذ تتدبره بالطريقة التي تراها أو التي تجيدها. فالنتيجة هي هي، وأخشى ما أخشاه أن يحدث الأمر بالطريقة التي أشرت اليها في ظل عزوف القوى السياسية صاحبة الموقف الجذري للتغيير عن مجرد التفكير في احتمالات امكانية الوصول الى حلول تفاوضية للأزمة الوطنية الشاملة، وراحت تتمترس خلف شعار إسقاط النظام، وهو موقف قوي ومتماسك، لكنه مطروح بلا أدوات للتنفيذ مثله مثل (الشيك الطائر) والذي يتفاجأ حامله بأنه بلا رصيد، ولذلك هو موقف يصلح للأنس البريء لكنه لا يصلح للسياسة، لأن الحديث في السياسة حينما لا يقترن بالعمل يتحول الى (شماعة) ثم الى نكتة في الشارع، مثل حديث التجمع الوطني الديمقراطي قبل (تشليعه) عن الانتفاضة الشعبية المعززة والمحمية بالسلاح، وقد أخبرني أحد طلاب جامعة الخرطوم ممن عاصرناهم في الدراسة آنذاك بأنهم في يوم من الأيام سمعوا انفجار إطار سيارة في الشارع، فسألهم أحد الطلاب متهكماً وكانوا جلهم من المنتمين للتجمع قائلاً «دي المحمية بالسلاح جات ولا شنو» مما يعني أن الشعار وبدلاً من أن يجمع الطلاب حوله أصبح مثار تندرهم ومحل سخريتهم، لأن الشعار طرح وبلا أدوات تنفيذ مثله مثل شعار إسقاط النظام حالياً، والذي لا يصلح للتنفيذ ولكنه يصلح لدراسة الحالة المزاجية والنفسية لمن (ينجر) مثل تلك الشعارات، وعن ما إذا كان جاداً فيما يقول أم لا، لأن طرح الشعار السياسي بهدف التنفيذ يتطلب الإجابة على عدة أسئلة على رأسها، هل الحركة الجماهيرية في حالة مد، أم أنها في حالة جزر، لأن كل مرحلة تتطلب تدبيراً معيناً يراعي امكانية الحركة الجماهيرية وقدرتها على الحراك، فالثورات لا تصنع بالتقديرات الذاتية أو استناداً على المزاج الشخصي للقيادات السياسية، وإذا طرحت على الجماهير واجبات أكبر من مقدراتها، فإن النتيجة تكون كارثية وربما تحبط الجماهير عن القيام باي عمل مستقبلي حتى وإن كان يتناسب مع قدراتها، وعليه وبالاستناد الى طبيعة المرحلة التي تعيشها الجماهير من شرذمة وتفكك فإن الأفضل هو التمترس خلف تسوية سياسية تناقش أسباب الأزمة الوطنية الشاملة، وتقوي تيار التغيير الجذري في ذلك الإطار المرتقب رسمه عقب الانتخابات الحالية.