كانت تعليمات الله سبحانه وتعالى لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام واضحة لا لبس فيها ولا غموض (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).. لاحظ (لا تقربا) وليس (لا تقطعا).. ومنذ أن تصرف أبونا آدم عليه السلام بغير ذلك الأمر الرباني. لم تذق الشجرة عافية ولم يذق أبناء آدم عافية، اختلت كل الموازين البيئية، واستهلكت البشرية على مدى تاريخها الطويل مخزونها الغابي في أسلوب غير رشيد، فكان أن غمرت الصحارى أجزاء كبيرة من مساحة الكرة الأرضية، الهيئة القومية للغابات سجلت أن عمليات المسح الزلزالي للنفط وإن مد خط الأنابيب من عدارييل إلى ميناء بشائر قد كبد السودان خسارة في غاباته تقدر ب580 مليون شجرة، ولو كنا نزرع كل عام مليون شجرة لاحتجنا إلى 580 سنة لنعود للمربع الأول، هذا النمط الاستهلاكي الرهيب هو ما يميز الإنسان، فهل الإنسان مخلوق مستهلك؟ هل تبلورت حياته حول ذلك النمط الاستهلاكي الذي يشمل كل شيء؟ أنظر حولي فأرى البيئة كلها وقد تحولت الى حاوية متسعة للنفايات التي تراكمت نتيجة لسلوكي الاستهلاكي.. فأنا إنسان عشت فيما تبقى من القرن العشرين ودلفت إلى القرن الحادي والعشرين أجد نفسي منذ أن أصحو من النوم وقد بدأت يومي باستهلاك للهواء وللماء والصابون ومعجون الأسنان ?...? الذي يحارب التسوس ويجعل الأسنان أكثر قوة حتى تستهلك أكثر، ولأنني لم أتعود على التنفس الصحيح ولذلك فإنني استنشق أكثر مما أحتاج من أكسجين وأحوله الى ثاني أكسيد الكربون وإذا تناولت فطوراً ?...? فمع أن كوباً من الحليب الخالي من الدهنيات وتفاحة تكفي ألا أنني أشرب أكواباً من الحليب كامل الدسم وكمية من الطعام تملأ جسمي بسعرات حرارية تحتاج الى أسبوع كامل لحرقها، وماذا عن السيارة التي أذهب بها الى عملي؟ ألا تستهلك هي كمية كبيرة من الوقود ولا سيما وأنني سأدعها تعمل لمدة نصف ساعة بحجة تسخين الموتور لتبريد فضاء العربة الداخلي، كم من البترول وكم من الزيوت الأخرى وكم من الحديد وقطع الغيار تكون قد استهلكت في إنتظار سعادة المدير لينتهي من اجتماعه ويعود ليجد السيارة باردة وبداخلها سائقها يغط في نوم عميق، أجلس خلف عجلة القيادة، ثم أتحرك بسرعة فائقة واصطدم بسيارة مسرعة من الجانب الآخر.. كم من قطع الغيار ومن الوقت.. وقتي وقتك ووقت شرطي المرور أكون قد استهلكت ?...? ولو كنت أعمل في أي مرفق من المرافق التي تقدم خدمات للجمهور كم من الوقت استهلكه في الثرثرة في التلفون، وفي شرب القهوة والشاي وفي التسكع بين المكاتب دون أن أنجز شيئاً أو قل أنني طبق قانون باركنسون والذي يقول: إن العمل يتمدد لكي يملأ الوقت المخصص لإكماله. وهذا معناه أنني استهلك كل اليوم لعمل شيء صغير جداً هذا إذا لم استلف يوماً آخر وأنا أقول لصاحب الحاجة: أذهب الآن وعد غداً. وإذا كنت من الذين يدخنون فإنني استهلك جزءاً من نقودي تتصاعد في الهواء على شكل دخان وتدخل رئتي وتستهلك جزءاً من خلاياها، بينما استهلك أنا الهواء المخصص لي والهواء المخصص لغيري وخاصة في الأماكن سيئة التهوية، فحتى الذين لا يدخنون يشاركوني الهواء الملوث ويتعرضون لنفس المخاطر الصحية التي أتعرض لها. هذا كله يقع في جانب وفي الجانب الآخر تقع عاداتي الاستهلاكية المستفحلة في أصناف الطعام وكميته والتي أزحم بها مائدتي ومعدتي كل يوم تلك الكميات التي ينتهي جزء كبير منها في حاوية القمامة. وفي زمن يعاني فيه العالم من مشكلة حقيقية في الحصول على مياه نظيفة ?...? كم من الماء استهلك فقط لغسل أصابعي وكم من الماء يتسرب من الصنبور المعطل وأنا لا ألتفت إليه ولا أكلف نفسي إصلاحه ?...? أما إذا تطرقت الى موضوع الكهرباء التي استهلكها في المنزل أو المكتب، أو حوانيت بائعي حلاوة المولد، ودكاكين السمك في شارع الموردة، أو الجزارات التي تضئ نهاراً وكل جزارة تركب ما لا يقل عن عشرين لمبة، تأكد لي أن الإنسان مخلوق مستهلك حتى النخاع.