حثني رهط من المعارف والأصدقاء، من الذين اعتادوا النزول بساحة العروسة صباح كل أربعاء، مقيلاً تحت (ضل التمر)، بالمضي قدماً لعرض سير المبدعين، الذين ظللوا حياتنا بعطائهم المبهرحتى تتعرف عليهم الأجيال، لم أجد مناصاً من الإنحياز التام نزولاً لرغبتهم، للدخول الى عوالم المبدعين. الحادي والعشرين من أبريل الماضي صادف مرور الذكرى الحادية عشرة لرحيل الفنان التاج مصطفى، الذي لقي ربه في نفس التاريخ عام 2004م، بعد عمر طويل أظهر خلاله قدرته وامكانياته الفنية التي صنفته ضمن فريق الرواد، الذين جعلوا للإغنية إسماً ومكانة بين رصيفاتها الأخريات.. كان التاج مصطفى ومايزال أحد أركان الأغنية وأعمدتها القوية، التي إرتكز عليها أساس البنيان المتين وقام، نهضت صروحه العالية تنبئ عن براعة جيل بأكمله، تسيد ساحات التنافس بدافع الرغبة والهواية، حباً في الغناء،لا طمعاً في الثروة وجمع المال، كما نلحظ ونشاهد اليوم... كان ميلاده في عشرينات القرن الماضي بمنطقة (أم مرحي) شمال أمدرمان، انتقل في سنواته الندية للإلتحاق بمعهد أم درمان العلمي، حيث كان والده معلماً بذات المعهد، بعد تركه الدراسي عام 1947م، تعلم التاج فنون العمارة والبناء، ومارس الأعمال الحرة على نطاق واسع، ليلتحق في النهاية بالتدريب المهني، كانت مهمته الأساسية تقييم أداء العمال، كان التاج في صباه مولعاً بالمديح، وأيضاً بفن الدوبيت، الذي كان يتقاسم أداءه مع زميله الطيب العباسي، كانت نشأته ذات أبعاد دينية ونزعات صوفية، انعكست لاحقاً في فنه وأغنياته، عصمته بالتالي من الوقوع في الطيش وبراثن الفجور.. عندما أيقن التاج إن وجهته الغنائية لا نكوص عنها، اختار له صديقه أحمد المصطفى، (وهو غير الفنان المعروف) أغنية الشاعر بن المعتز (أيها الساقي إليك المشتكى)، لحنها وغناها التاج، فكانت من أوائل أغنياته التي ذاعت بين الناس تنامى إعجاب التاج وازداد تعلقه بأسطوانات كرومه، وعبد الله الماحي، وسرور، والفاضل أحمد، كانت أولى الأغنيات التي شغفته إعجاباً (أنا ما معيون) للفنان ود ماحي، الذي قابله التاج لأول مرة ومعه الفنان على الشايقي، في حفل زواج عمه بالقرية شمال أم درمان، ثم أردف لقائه به ثانية في زفاف ضابط البوليس الشيخ محمد الشيخ؛ الذي جمع في عرسه عبد الله الماحي والأمين برهان،.. قضى التاج مصطفى شطراً من حياته في شارع كرري مجاوراً للشاعر التيجاني يوسف بشير، ومحمد عبد القادر كرف، قبل أن ينتقل الى حي العرب، ومنها الى أمبده.. بدأ التاج مصطفى الغناء قبل دخوله الإذاعه بنحو عامين، كان دائم اللقاء وقتها مع على الريح شقيق الشاعر عبد الرحمن الريح، ومعه زنقار والجزولي وغيرهم، يرددون أغنيات عبد الرحمن الريح بعيد الدار وعلى النجيلة جلسنا.. في عام 1947م انطلق صوت التاج مصطفى غناء بهيجاً في منزل والد الممثل عبد الوهاب الجعفري، في إحدى المناسبات العائلية، سمعه الجعفري وقدمه للإذاعة، فكان اللقاء مع المبارك إبراهيم وحسين طه ذكي، غنى أمامهما يا (فتاة النيل) وبعد أسبوع وجد اسمه منشوراً في مجلة هنا أم درمان، بعد أن تم اعتماده مطرباً بالإذاعة، كان التاج معجباً بالفنان حسن عطية وله عشق خاص بإغنيات الكاشف، وكان يستعين بالتاج ليحل محله في حفلاته عندما تحاصره بعض الظروف،. فنان الملهمة وعازف الأوتار، كان له أسلوبه الخاص في الغناء، استفاد كثيراً من سعيه المبكر لدراسة الموسيقى وتطبيقها فعلياً في ألحانه، التقى بعدد من الشعراء منهم خورشيد عبد الرحمن الريح، الطاهر حسن السني، إدريس عمر،الأمي، بازرعه، عتيق، إسماعيل حسن، على محمود، التجاني يوسف بشير؛الذى غنى له التاج( النايم المسحور )فى الستينات. بعد أن قدمت الإذاعه أغنيات التاج مصطفى، انتشر اسمه وعلا ذكره، وارتفعت أسهمه، طفق يجوب أرجاء البلاد في رحلاته الفنية، سافر الى الأبيض ومعه ابن المنطقة الشاعر إسماعيل خورشيد، والمنلوجست ضربه،وهناك ألتقى الشاعر الأمي، وكان عربون اللقاءأغنية (عيونك علموا عينى السهر).. وفي الابيض نفسها، اجتمع بالشاعر ود القرشي في رحلة بجبل كرباج، غنى فيها القرشي القطار المر، وسمح للتاج بغنائها، وفي إحدى حفلات الإذاعة هم التاج بأدائها وكان معه عثمان الشفيع، الذي أخبره أنه قد دخل في بهو القطار المر، فور تسلمه إياها من القرشي قبل خمسة شهور فطلب أن يغنيها فتنازل عنها التاج. مثلما كان التاج بارعاً في فنه وغنائه، كان ناجحاً بذات القدر في أعماله الأخرى، فقد جمعته مهنة البناء بزملائه عبد الحميد يوسف، وحميده أبوعشر، فشاركوا في بناء كثير من الصروح المعروفة، مثل مطار الخرطوم، والجناح الجنوبي لجامعة الخرطوم، وداخليات مدرسة حنتوب ونادي المريخ وغيرها. كان فنان النسيم، يتمتع وسط زملائه بوشائج قوية، جلبت له القبول والإحترام، نتاجاً لخلقه القويم، قبل رحيله بأربعة أيام هاتفني كعادته الفنان عثمان حسين، لمرافقته لمعاودة التاج بمستشفى بحري، دخلنا عليه في غرفته بالجناح الخاص، فكانت لحظات أكبر من أن تصفها الكلمات، تعانق العملاقان بحميمية ظاهره، عبرت عنها دموعهما المتساقطة، التي جففها وعد الفراش بزيارة التاج حال خروجه من مشفاه يوم الجمعة، ولكن هيهات فقد نزلت سيوف القدر لتأخذ التاج الى عليائه مساء الأربعاء.. وفاء التاج وإحتفائه بزملائه كان أمراً مألوفاً، في نهاية سبتمبر2003م، اعتزم إتحاد أبناء أوسلي بالخرطوم، تكريم الفنان عثمان حسين بصورة غير مسبوقة بمنتجع ليالي أم درمان، وسط حضوركبير تقدمه الراحل وردي، والموسيقار محمد الأمين، والفنان حمد الريح، وعلى إبراهيم اللحو.، والمرحوم عثمان اليمني وغيرهم، كان أول الحاضرين الراحل التاج مصطفى،الذي أضفى وجوده على الإحتفال بهاء خاصاً، أحسسنا قدره عند الراحل (ابوعفان)... لعلها كانت المشاركة الأخيرة للتاج في محفل عام قبل رحيله المؤلم في 2004م. في يوليو 2003م سعيت اليه في منزله بأمبدة الحارة الثالثة، أدعوه للمشاركة في سهرة خاصة (حبيب العمر) أعددتها لتلفزيون السودان، بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل الفنان العاقب محمد حسن، فكانت استجابته ومشاركته الفاعلة مع الأستاذ ميرغني البكري، وكلاهما من الذين يعرفون عن العاقب ما لايعرفه غيرهما من البحاثة والمتحدثين، رحم الله فنان الملهمة وعازف الأوتار مرهف المشاعر، صادق الإحساس، التاج مصطفى، الذي سكب عصارة فكره،ألحاناً لا تجارى، ستظل وحدها تمجد اسمه وتكتبه في صحائف الخالدين بمداد من نور، وسلام على أسرته التي ما فتئت تذكره في كل حين....