يتشكّل الجذر المادي للنبوءة، من كونها صادرة عن صاحب القداسة، فهو الأكثر تأهيلاً لقراءة الواقع وتفسيره بحكم مركزيته في الحراك الإجتماعي، ولامتلاكه الأداة الروحية الجالبة للمعرفة.. وتُترجم المكانة الروحية والإجتماعية لأولياء التصوُّف، إلى مواقف حيّة، بينها بالضّرورة دور سياسي، مهما بدا، أن الولي بسمته الروحاني بعيداً عن ذلك الحقل.. الناس يفترضون في الولي المعرفة الكليّة لحظوته بقبس إلهي، كونه ربّانياً بملازمة الطاعة، وذلك بنص الحديث القدسي، الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام: «عبدي أطعني، أجعلك ربّانيا تقول للشيء كن فيكون».. أنظر، الشيخ محمد الكسنزاني، التصوُّف، ص9. «.. والولي بأداة الروح، هو صاحب الأمر، والحقيق بالسلطة الزمانية والمكانية، و«إذا غضب تهلك الدنيا، لأن السموات والأرض معه، كهبّابة الجَبَنة».. هذا مشهد للشيخ علي بيتاي، كما سطّره د. عبدالله علي ابراهيم.. أنظر، أُنس الكُتب، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم/1984، ص95.. و الشيخ الصوفي يُدرك المسألة، والعامة يعتقدون بأنّ أقواله وأفعاله وخواطره لا تذهب أدراج الرياح، وأنّ كل حركة أو إشارة منه وراءها سر.. فإن إعتاد الناس على رؤية الولي متلثِّما، فهو يخفي وجهه عنهم رِفقاً بهم، لأن النظر إلى نور وجهه يسحق الناظرين، وإن تعهد صوفي آخر بالسير كاشف الرأس، فلأنه، «إن إتقنَّع، وقال للميِّت قوم، فإنّه يقوم».. وهذه المقابلة بين مشهد «التلثُّم» عند السيد أحمد البدوي، «راجِل طنطا»، ومشهد «كشف الرأس» عند الشيخ حسن ود حسونة، «راجِل باعوضة»، هو الحرص على المعيّة، مع تضاد الفِعل في الحالتين.. أنظر، محمد عثمان عبده البرهاني، إنتصار أولياء الرحمن على أولياء الشيطان، ص96. أنظر، الطبقات، ص144.. من هذه الإحاطة ب «جواهر المعاني»، تخرج النبوءة من الشيخ، دون أن تنفي أبعادها الميتافيزيقية أُسّها أو جِذرها المادي،، فالدعوة بالتبريك ككرامة، على سبيل المثال، تأتي من الولي الصوفي تتويجاً لإبداع وتفاني المحظيّ بتلك الدّعوة،، واللعنة الصادرة منه كذلك، هي محصلة للتسفُّل والإنحطاط.. أي أنّ البركة هي حافز للمزيد من المجد، واللعنة هي تخسئةً لمن ركنَ إلى حالة الإنحدار واستسلم للشّهوات أو ركنَ إلى«الضلال».. والنبوءة، أو الكرامة الصوفية، تُؤطَر وتُقاس بمعايير مادية تحدد مسارها، لكن لا سبيل إلى عقلنتها تماماً وفحص كل أبعادها الروحية، إذ هي بالدرجة الأولى، موضوع إيماني.. لكن البحث في نزعاتها المادية، بسبيل من المحاولة لفهمها كحدث خارق، عن طريق تفكيك/اكتشاف الأبعاد التاريخية للنص، دون إفراغه من وجدانياته الميتافيزيقية الروحانية.. على هذا، يُقرأ سر الدعوة بالترفيع، حين تصدُر من الولي، لتمظهر في ماعون ذلك المتفرِّد المحظى بها.. ويعطي الشيخ عووضة «شكّال القارح»، مثالاً لذلك في انتشاله لرجلٍ فاسق، حُظي منه ب «سر قِيام الليل»، ذلك أن الرجل كان قد وضع رجله على الطريق بتوبةٍ نصوح.. أنظر، الطبقات، ص275. وقد جاءت نبوءة الشيخ تاج الدين البهاري، بأن تلميذيه «الهميم، وبان النّقا»، ستحيا بهم بلاد السّودان، لأن الشيخ البهاري كان قد لمَسَ منذ البداية، علو همّتهما، وتفردهما في السلوك، وتفانيهما في الخدمة.. ولا جدال، في أن النبوءة عند الصوفية هي وجه للمعرفة الاشراقية أو الكشفية، التي يتمتع بها صاحب الوقت، لأنه صاحب المكانة الاجتماعية والروحية، أي صاحب «المقام» الرفيع، الذي تصب عنده عملياً أغلب المعلومات المتعلقة بالحياة الاجتماعية والروحية في عصره، ولذا فهو أكثر العارفين المُدركين بما يدور في ميدانه الاجتماعي، وفي مقدِّمة المؤهلين لقراءة الواقع بوعي ودقة.. فهو إذن، يقرأ الأحداث ببصيرة، مستفيداً من تراكم المعرفة لديه.. وبهذا وذاك، يهتِك حِجاب السّتر، ويكشِف الأبعاد الخفيّة..!