يتفتقُ العقل، لكن الخيال يركض، يجنح، ويحلق.. ولئن كانت الأمم العظيمة تصنعُ حاضرها بالعقل، فإنها- في الوقت ذاته- تصنعُ مستقبلها بالخيال! إنني أتخيلُ، إذن أنا أعيش في المستقبل. صحيح أن اللحظة الحاضرة، هي اللحظة الحقيقية.. ما قبلها انطوت وراحت في ستين داهية.. وصحيح أن اللحظة الآتية، هي قبض ريح، لكنها- إلى أن يأذن الرب بزوال الزمن- آتية لا ريب فيها! الخيال يركضُ، يجنح باتجاه ماهو آت، وحين يأتي ماهو آت، تحمد الأمم العظيمة. للخيال ركضه، ورفرفة جناحيه. الخيال يصنع ماهو شعري، وكل ما هو جميل، وبديع، على مستوى الشعر نفسه، وعلى مستوى التلحين، والتطريب.. والنحت، وعلى مستوى العمارة، والتشجير، والمساحات الخضراء.. بل إنني أغامر وأقول إن الخيال يصنعُ كل ما هو جميل حتى على مستوى.. السلوك! أكتبُ وفي بالي، أمم كثيرة لا تعرف للخيال نعمة، ولا تعرف له ركضا ولا تجنيحا. أمم تراها- إذ تراها- فقيرة جدا، لكل ما هو جميل ورائع ومدهش. ما هو مؤسف أن أمتنا العربية، التي جنح فيها الخيال الشعري، لاتزال من بين هذه الأمم الفقيرة. إنني لأعجب لأمة، استبق شاعرها بالخيال دماغ صاحب سقوط التفاحة- نيوتن- حين قال: (كجلمود صخر حطه السيل من عل) كيف تفرط في نعمة الخيال؟ وإنني لأعجب، من أمة جنح خيال أحد شعرائها في وصف الصحراء، حد القول: (تجري فيها الرياح حيرى مولولة تلوذ بأكتاف الجلاميد)، كيف أنها لا توظف كل هذا الخيال البديع في صناعة مستقبلها بكل ماهو مدهش وبديع. مرة أخرى، أكتب وفي بالي دول صنعها الخيال (من ما في).. أكتب وفي بالي سنغافورة، تلك التي صارت بالخيال أيقونة من أيقونات هذا العصر.. وعجيبة من عجائب هذا الزمان. سنغافورة صنعها رجل في أربعة عقود فقط.. رجل امتلك إلى جانب العقل، والجسارة، نعمة الخيال.. رجل اسمه لي كوان يو.. خليط سحري من نعمتي العقل والخيال.. من كل آداب اللحظة التي مرت، وكل احتمالات اللحظة التي لاتزال في رحم المستقبل! من لايزال يراهن أن الأمم العظيمة لا يبنيها فرد واحد، فلينظر إلى عجيبة الدنيا- سنغافورة، وليرفع التحية تعظيم سلام لرجلها المدهش كوان يو! يا ريت لو كان لنا في السودان- مثلا- نسخة من كوان.. يا ريت لو امتلكنا- في هذا البلد الفقير لنعمة الخيال- ناصية الاستنساخ من على البعد!