٭ على إثر ما كتبته الأسبوع الماضي حول مرور الذكرى السابعة لرحيل الفنان عثمان حسين، حفل بريدى بفيض من الرسائل المكتوبة والمسموعة، التى ما زال عشاق «الفراش» يصوبونها نحونا، أملاً في مواصلة التعرض لبعض المواقف التى إرتبطت بحياته كنجم محبوب، تعلقت بفنه أجيال وأجيال، وإزاء هذه الرغبات الملحة، وجدت نفسى تواقاً لمباشرة الحديث ولو بقدر يسير، رغم قناعاتى الراسخة بأن الكتابة عن «أبى عفان» لا تستوعبها إلا الكتب والمجلدات. ٭ الراحل عثمان حسين كان له معيار خاص لاختيار الأغنيات، أوله أن يكون النص يحمل الرؤى والمضامين الجديدة التى يقتنع بها فى الأول قبل أن يقنع بها الآخرين. كانت أمنيات كثير من الشعراء أن يغنى أشعارهم عثمان، ولكنه كعادته كان دقيقاً لا يجامل مهما كانت درجة العلاقة التى تربطه بعدد من الشعراء، فعند رحيله وجدت فى حوزته عشرات القصائد لم يشأ أن يقدمها لأنها لا تتفق مع نهجه ولا تتماشى مع طريقته في البحث المضني عن المعاني والأطر الشعرية الجديدة، فقد كان فناناًَ كما أثبتت الأيام لا يهتم بالكم بقدر اهتمامه بالجودة وتنوع الموضوعات كاللوعة والشجن والهجر وظلم الأحبة وغيرها من المعاني التي وردت بكثافة في بعض أعماله الغنائية. كان أبو عفان ،سفيراً للأغنية السودانية، فتح لها آفاقا رحيبة فى كثير من الدول، تكاملت أدواره مع بقية الرواد، فجعلوا للفن مكانة وسموا فى كثير من الأقطار والبلدان، فعند زيارته الأولى مثلاً للقاهرة عام 1951م تمدد عطاؤه فى الأنديه والمسارح ومواقع الجاليات، ودخل أستديوهات إذاعة ركن السودان، وأودع مكتبتها عدداًَ من الأغنيات، بعضها لم يكن مسجلاً بإذاعة أم درمان، ليبقى التحدي ماثلاً أمام إذاعة ذاكرة الأمة، لرفد مكتبتها بمثل هذه الأعمال له ولبقية الرواد، ََ٭ في عام 1961م سافر أبو عفان إلى لندن، كانت وجهته في هذه المهمة إلى القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، وفي لقاء مع الأديب الطيب صالح وعلى أبوسن،الذي كتب لعثمان أغنية وطنية «على ضفاف التايمز نحنّ إلى السودان» كانت فكرتها من نعيم البصري، ولحنها وسجلها عثمان مع فرقة الإذاعة الإنجليزيه. ٭ كان عثمان حسين ميالاً فى غنائه للغة الفصحى، متأثرا بالسينما المصرية التى كان من روادها، شاهد ذات يوم فيلماً بسينما الوطنيه لمحمد عبد الوهاب بحضور أصدقائه أبوعاقله يوسف وخالد العجبانى وصلاح أحمد، الذين كانو يحثونه على الغناء بالفصحى أسوة بالفنانين العرب، قدم له صلاح أحمد بداية نص فصيح «مات الهوى» اكتمل نصاً ولحناً بمنزله بالسجانة حول مائدة غداء عمرت بالمطايب والأصناف، كان أبو عفان يؤمن لدرجة كبيره أن قدرة الفنان تكمن فى التخصص وصدق التناول، فى لون معين من ألوان الغناء، لذلك إنحصر جل نشاطه غناء للعاطفة والوطن، لم يؤد الأغنيات الدينية، ولم يغن للأطفال، ليس تكاسلاً أو عجزاً، وكان يقول إن ذلك مجال له فرسانه المعروفين.. يظن الكثيرون أن عثمان توقف غناؤه للوطن،فى محطة «أرضنا الطيبه» لبازرعه، فذاك قول مردود، يكذبه الواقع المحفوظ بمكتبة الإذاعة، فله رتل من الأغنيات الوطنية، التي ما زالت تسجل نقاطاً بارزة فى سفر عطائه المتواصل، منها «العودة إلى اليرموك» للشاعر صلاح أحمد إبراهيم، التي تقول: «حرمان عليك الطرب والقدس محتلة ... حرمان عليك والعرب فى خيام الذلة...والحق سليب منتهك حرمان عليك والله...الخ» .عندما بدأت ثورة الحجارة ضد الكيان اليهودي عام 2000م، كنت وقتها فى نيالا ،أوعزت هاتفيا للأستاذ معتصم فضل مدير البرامج حينها أن يجعل للإغنيه سبيلاً لمصافحة المستمعين، وأحسب أنه قد فعل ٭ من الأغنيات الأخرى «الملايين» للفيتوري و«الوعي الجديد» لفضل الله محمد، و«عرس الدم» لبازرعة، و«المبايعه» لمصطفى سند، و«أحكى لها» لمحمد الطيب عربي، و«البرلمان» و«أم درمان» للتنقاري ، التي جاءت مرادفة لأغنية «الخرطوم» التى كتبها عبد الرحمن الريح للفنان حسن عطية. ٭ طوال مسيرة «الفراش الغنائية»، لم نره يوماً يتغنى بشعر مبتذل أو يتناول أغنية هابطة، لم ينحدر «ترمومتر» اختياره للنزول إلى درك سحيق، مثلما يحدث اليوم من تدن واضح فى المفردات والأداء، بما إمتلأت به الساحة، وضجت بقبحه شبكات التواصل والأسافير قدحاً وذماً بلا هوادة فيه، للغناء الهابط الذى درج على أدائه بعض فنانى آخر الزمان. ٭ كان عثمان حسين يرحمه الله، وحتى ساعة رحيله نموذجاً مشرفاً في الضبط والإحترام وشفافية التعامل، يحترم فنه لدرجة كبيرة، فأغنياته عنده بمثابة أبنائه لا يقبل فيهن شيئاً، أذكر له واقعة حضرتها بنفسي، كنا جلوساً عنده فى منزله حينما طرق الباب أحد الضيوف ليدعوه لمشاركته أفراحه بمناسبة زواجه، نظير أى مبلغ يطلبه، ضحك الفراش وأردف قائلاً لا مبروك مقدما يا ابنى، طبعاً أنا بطلت الغناء فى بيوت الأفراح قرابة عشرين عاما، لذا إعتذر)ظن العريس أن المسأله مربوطة بالمال، فأخرج من جيبه شيكاً موقعاً ،مده للفراش قائلاً يا أستاذ ده شيك «على بياض»،حدد المبلغ الذى يعجبك وتعال غني ...رد عثمان..يا ابنى الموضوع ما قروش، ده موقف من سنوات. سألنا عثمان بعد إنصراف الفتى لما ذا أضاع على نفسه فرصة يتمناها أى فنان،أجاب بنبرة لا تخلو من الحده،«إنت مجنون ياعوض،أنا بعد ده لا تاريخى ولا سني يسمحان لى بالغناء فى الأعراس، حتى لو دفعوا مليارات الجنيهات، «الله ..الله ياعثمان، بالله عليكم أى رجل وأى فنان،إحترم اسمه وفنه غير عثمان...؟ ٭ قبل رحيله بشهور قطع الراحل حسن ساتي رئيس مجلس إدارة هذه الصحيفه الأسبق، موعداً لتكريم الملك عثمان فى يوليو 2008م بقاعة الصداقه، قبل عثمان المبدأ، ولكنه قال حسن ساتي ده ما يبالغ، قال حا يكرمنى شهر 7، هو أنا حا إنتظر شهر7؟ وقد كان، رحل عثمان فى يونيو، وعلى عجل لحقه فارس الحرف الأنيق حسن ساتى فى نوفمبر نفس العام. هذه صفحات باقيه من سجله الخالد، وما أكثر صفحاته المشرقه التى ما زالت تموج بالتفرد والمواقف المشهودة، التي تضيق عن استيعابها حدود مساحة النشر الضيقه، قدمناها فى ذكراه السابعه، ونعلم إنها جهد المقل.اللهم أرحمه ووسده«البارده» فقد طرز حياتنا وطوق أعناق التاريخ بجميل لن ننساه،إمتلأ بقيم التسامح والتصافي والمحبة،التي ما زلنا نحتاجها لفك طلاسم الحياة المعقدة، فهو فنان إختصه الله بالقدرة على إحتلال المكامن والوجدان.