٭ كانت العاميّة السودانية، لسان حال المجتمع القبلي في نزوعه نحو الاستعراب والأسلمة داخل كيان السلطنة/ الدولة الوليد، وكان شعر المدائح على وجه التحديد، مظهراً تاريخياً على غلبة الثقافة العربية الاسلامية، وشيوع ثقافة التصوف بين القبائل، و قد جاء كنمط تعبيري يقدِّم المواجِد الروحية، في قالب أدبي تتحشد في نصوصه عوالم البيئة المحلية في تنوعها وتمايزها الإثني والثقافي.. ٭ و لفظ «المدائح» في العامية السودانية عميق الدلالة والإشارة إلى الشعر العقدي الذي تعافى - إلى حد ما - من ذيول ومفاهيم تستتبع اللفظ المرادف له في الفصحى، وهو المدح، ذلك أن موضوعها وجوهرها هو القداسة و حمل لواء الدعوة إلى الدين، باتخاذ التصوف موضوعاً، وبث مفاهيمه بأبواق تراثية..والمدائح السودانية، وجلّها صيغ في قالب العاميّة، هي أشعار ذات مضامين دينية واجتماعية تلبّست أثواب النغم والإيقاع الافريقي، وهي فن سماعي يتداوله النّاس في ليالي مجتمعٍ شفاهي، و»لو لم ترافقه الألحان لمات في صدور المنشدين».. أنظر قرشي محمد حسن ، أدب المدائح ، ص «27» ولما كان التصوف هو وريث القبلية، فقد اتخذ شعراء المدائح من تراثها وعاءً وآلية لبث مفاهيم التدين والقداسة الروحية، وبذلك انطلقت المدائح النبوية والصوفية من تلك الأرضية القبلية، لتعبر عن تاريخية زحف الطريقة على القبيلة حتى وراثتها.. ٭ تقِف نصوص المدائح كشواهد دالة على البيئة الاجتماعية والطبيعية التي انسلّت منها، كما تطوي في جوفها ملامح الوضع التاريخي لزمان شاعرها، ومناخ اقليمه، وسكناه، نيلية كانت أم بدوية، صعيداً، أم سافلاً.. وتصطبغ كذلك، بلهجة قبيلته وايقاعها، لهجتها ومصطلحاتها، أنسابها وأفخاذها وطقوسها، عاداتها وكرامات أوليائها، إلى آخر مشاهد التمازج العرقي والثقافي في ذلك المجتمع الهجين.. ولقد التقط المادحون نقاط تشابه بين بيئة السودان وأرض الحجاز، فصاغت نصوص المدائح مُعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، المرتبطة بالبداوة، مثل عِتقه الغزال، وشكوى الجمل له، وإدراره ضرع الشاة، وحنين الجذع إليه..يُضاف إلى ذلك، أن المجتمع السوداني ، تقبّل مبادئ الفقه المالكي نظراً للتشابه الكبير بين بلاد السودان وشبه الجزيرة العربية، فلم تكن هناك فواصل تقصم ظهر الوصال بين الوافدين في قوافل الهجرة، وبين أهل الديار التي «هجّوا» نحوها. وكما ذكرنا آنفاً ، فقد صِيغت جل أشعار المدائح في قوالب العامية السودانية، باعتبارها نتاج الصراع بين اللغة العربية وألسنة القبائل المتعددة.. من هنا تبرز حقيقة أخري حول تباين العاميّة، تبعاً لاختلاف الأقاليم السودانية، فالعاميّة بمثابة نهر ماؤه عربي، بيد أن ضفافه تحتوش الكثير من الثقافات واللهجات المحلية، حيث أن لكل قبيلة في السودان الكبير إرثها وتاريخها، وشدوها وطقوسها، وشاراتها المستخدمة كمصطلح لمعنى يرتبط بتجربة إنسانها. ٭ كان تسربل المدائح بالنغم الافريقي، وبساطة معانيها، هما شرطا مواءمة نصوصها القُدسية مع الوتر الإفريقي الشفاهي، بما يسهل الاندغام فيه، لتعود «العقيدة» من بعد التغلغل في مفاصل ذلك الوِتر، إلى استعادة ما أجبرها الظرف على التعري منه..! و هكذا وظّف المادحون تلاحم الشعر مع النغم لخدمة الوعي، ونزلوا كقادة رأي إلى العامة، وخاطبوهم على قدر عقولهم، وتدرجوا بوعيهم حتى غرسوا اللّبنات الأساسية للدين...ومن هنا جاءت المدائح عصيّة على الفهم لدى السّلف و سكّان الحواضر، حال نزعها من إطارها التاريخي وتجريدها من ثوبها التراثي.. لذلك نلحظ غلاة السلف، يصل بهم إهدار البعد التاريخي لتلك النصوص، إلى حد اتهام أدب المدائح بتشويه العقيدة والخروج عليها، والأمر ببساطة هو أن المدائح إعتمدت المرونة في الطرح، وعايشت الواقع الذي لم يكن يسمح بالإعلان الصريح عن «محجة بيضاء ليلها كنهارها»..ولكنّ الدعاة/ المادحين، بعد أن تغلغلوا في المجتمع «ركِبوا طبقاً عن طبق»فاستخرجوا المفاهيم التي لم يكن الواقع التاريخي يسمح بتعميمها على الناس في تلك البدايات..!