في ذاك اليوم كان الرئيس جعفر نميري في مزاج رايق..انجلت أزمة اضراب القضاة الشهير.. اللواء عمر م الطيب النائب الاول ومدير جهاز الأمن وقتها يرفع تقرير لقائده الاعلي عن يوميات الأزمة التي أرهقت النظام المايوي.. الرئيس نميري في واحدة من حالات الحكمة النادرة يأمر نائبه بإحالة نحو أربعة قضاة كان ذنبهم انهم خالفوا اجماع زملائهم وواصلوا العمل في ايام الإضراب..تقديرات الرئيس نميري كانت تجنح ان من يوالي السلطان لا يستحق كرسي القضاء. امس تحدث مولانا الامين البشير الطيب قاضي المحكمة العليا للصحافة السودانية في شان التدابير المحاسبية في الهيئة القضائية..مولانا الطيب قال بالحرف» نحن الجهة الوحيدة التي لا تاكل الحرام»..ربما حاول مولانا ان يبرىء ساحة الهيئة القضائية من جنحة مخالفة التحصيل الالكتروني ..ولكن الصيغة الواردة على النحو أعلاه تجعل كل جهة اخري في الدولة تاكل الحرام..الكلام بهذه اللغة وعندما ينسب لقاض بالمحكمة العليا يصبح في غاية الاحراج لكل مؤسسات الدولة. سأتناول مثالا آخراً ذو صلة..امس اجتمع مولانا عوض الحسن النور وزير العدل مع السيد رئيس الجمهورية ليسلمه مسودة قانون مكافحة الفساد..الوزير اكد للصحافة ان الرئيس وجهه بضرورة تعويض اسر ضحايا احداث سبتمبر وضرورة معاقبة المتورطين في تلك الأحداث التي جرت في سبتمبر من العام 2013..من المعروف سلفا ان هنالك لجنة قانونية كانت تدرس ذاك الملف الشائك.. هل كان وزير العدل ينتظر توجيهات رئاسية في أمر هو من صميم واجباته في اقامة العدل..الامر الثاني التعويضات ستذهب لمن ؟..بعض هؤلاء الشهداء كانوا من المتظاهرين وبعضهم لقي مصرعه عبر الصدفة او نتاج الفوضي..في مثل هذا الوضع الشائك من الافضل ان يأخذ القانون مجراه بعيدا عن التوجيهات السياسية. في تقديري ..واحدة من المشكلات التي تواجه الاصلاح العدلي في بلادنا ربما هي الحساسية المفرطة في التعاطي مع الاعلام..عدد كبير من القضايا المثيرة لاهتمام الناس تمنع وسائل الاعلام من تغطيتها مما يصادم القاعدة العدلية التي تتحدث عن علنية المحاكم..معظم الصحف تتجنب التعليق على احكام القضاء حتى بعد ان تكمل دورتها في التقاضي او ينتهي الحكم بلا طلب استئناف من الجهة المتضررة..لهذا مجرد نقد صغير لتصرف ادارة مالية يثير غضب الاجهزة العدلية. هذه الحساسية جعلت الأعلام يتحاشى حتى الاشادة ببعض التطورات الإيجابية ..قبل اسابيع أصدرت المحكمة الدستورية حكما يتيح ملاحقة المتهمين بقمع احدى المظاهرات السلمية في بورتسودان والتي حدثت في العام 2006..ومن قبلها أفتت ذات المحكمة الدستورية ببطلان حكم محكمة الشرطة في قضية النقيب ابوزيد صالح تكل الله..كل هذه التطورات لم تجد من التعليق والإشادة ما تستحق . بصراحة..النظام العدلي بما فيه من قضاء ونيابة وشرطة يستحق الاحترام والتعامل معه بحذر..ولكن أصباغ صفات الكمال يعيق التحديث والتطوير ويحجب الرؤية الناقدة..وأفضل ما في هذا النظام انه مبني على تراتبية التقاضي مما يعني ان في كل حكم اخذ ورد وربما استئناف.