حبيبنا صلاح.. واليوم نكتب في فرح.. أو وجع عن الدكتور عمر الجزلي.. فقط لأنه من ذاك الماضي البهيج.. وعمر الجزلي يا صلاح.. هو قارورة عطر بهيج.. مصباح منار وضيء.. نهر إبداع بلا ساحل.. حديقة أزهار بلا أشواك.. حقل قمح تتعانق وتتعابث فيه السنابل.. جدول عسل مصفى ولذيذ.. ولد الرجل ليكون خلف المايكرفون.. وهدفاً لكاميرات التلفزيون.. وتذكره يا صلاح وتذكر صفحة لن أنساها ما أشرق صبح.. ما اليل ليل.. لن تبارح «فمي» وعقلي.. وروحي.. وعصبي حتى يطوي الله الأرض أو حتى تصعد روحي مبارحة الدنيا كلها وليس الأوطان. يجلس الجزلي.. فاطمة أحمد إبراهيم.. وينزلق زورق السياحة في نهر فاطمة.. الذي يكون مرات وديعاً مستأنساً هاديء الأمواج.. وأحياناً مزمجراً صاخباً هادراً حسب ذكر الأوطان.. ويرسى الزورق في رحلته إلى شاطيء أطفال الشوارع والمشردين والذين نسميهم نحن وفي غلظة كبر «الشماشة».. هنا تهطل الدموع من عيون فاطمة.. طوفان من الحزن والألم والأسى.. يتوقف التسجيل هي أول مرة في تاريخ التلفزيون أن يتوقف التسجيل.. فاطمة لم تكن تبكي الشفيع.. فقد كانت تعلم.. وتتأكد وتفخر وتتباهي بأن.. الشفيع يا فاطمة في الحي في المصانع وفي البلد حي سكتيها القالت أحي ما حصادو الأخضر الني راضي عنو الشعب والدي مات شهيد أنا واحلالي. فاطمة لم تكن تبكي الشفيع.. هو حي في وجدانها ووجدان كل أخيار الأمة.. فاطمة كانت تبكي.. أطفال زغب الحواصل لا ظل ولا ماء ولا شجر.. تبكي طفولة أسرتها ومخادع نومها الخيران والمجاري.. ضحايا طعامهم «الكرتة» وبراميل النفايات.. تبكي أشعة شمس تشوي جلودهم «الرهينة».. تبكي لسعات برد تعز فيه غرفة.. بطانية.. أو بقايا «ملاية» وتنحدر في الثانية دمعة من على خد الجزلي.. صدقني يا صلاح.. إن تلك الدمعة التي انحدرت من عيون الجزلي قد هدمت حائطاً رقيقاً جداً بيني وعمر الجزلي.. فقد كان الرجل يعلن في جسارة وبسالة يحسدها عليه المنافقون المدعون للنضال الرافعون لرايات الانحياز إلى الديمقراطية علناً ثم يتسللون سراً إلى دهاليز الشمولية.. كان عمر يعلن عبر الفضاء كله أنه يحب الحكم العسكري الشمولي.. شكراً لتلك الدمعة فقد زادتني حباً وإعجاباً والتصادقاً بالجزلي.. وينتهي البرنامج.. وتنهض الأسئلة.. ما دهى السودان.. وماذا يجري في هذه البلاد.. وصحيح والله الكل في السودان يحتل غير مكانه.. ودعني حبيبنا صلاح أن أستعير وأستلف قسماً كان يرددها كثيراً الحبيب «طه الكد» ومثله أقول.. أقسم بالتي أحبها وقسماً لأبرن قسمي.. إنه لو كان «عمر الجزلي» مواطناً في أي دولة في هذا الكوكب لكان مدير «التلفزيون» لا يخرج منه إلا لحظة خروج روحه عائدة إلى ربها. عجيب أمر هذه البلاد.. تتجاهل مصباحاً وهاجاً أضاء كل جنبات الوطن.. لا أتحدث عن تدفق إبداعه ولا عن تشكيله عبر الدروس كل مذيعي ومذيعات بلادي.. أتحدث عن روعته وهو «يفرغ» من صدور شموخ النساء ومن تجاويف كبرياء الرجال.. أحداث الوطن لتطل صفحات من تاريخ الوطن.. وبها يقتحم الجزلي سلسلة المؤرخين الماسية لينضم في استحقاق للقدال وشبيكة وعصمت زلفو.. وحسن نجيلة ولك حبي عووضة.