كان مسيد أولاد جابر، قبساً من المشعل الذي أضاء به غلام الله بن عائد عتمة الحيرة في دنقلا العجوز، وأولاد جابر هم حفدة غلام الله، وهو منسوب إليهم من بعد، لشهرتهم التي ملأت الآفاق. وقد نشط أولاد جابر في التعليم الديني بديار الشايقية على عهد الشيخ عجيب المانجلك.. أشعل الوقيد في مسيدهم الشيخ إبراهيم البولاد، الذي بدأ تدريس الفقه المالكي، على أس ميوله الصوفية التي يشير إليها ود ضيف الله كلّما ذكر أولاد جابر «يقال إن عظمة أولاد جابر دعوة صالحة من أمهم.. قالت الله يجعلكم يا وليداتي أوتاداً في الأرض». وأولاد جابر في عالم التصوف السوداني، أكثر «أوتاد».. فهُم الأصول التي يكتشف بها حكماء الصوفية من خلالها أسرارالكائنات.. هم كالعناصر الأربعة «الماء والتراب والنّار والهواء»، التي تنشأ عليها الحياة.. يقول ود ضيف الله إن «أعلمهم إبراهيم، وأصلحهم عبد الرحمن، وأكثرهم ورعاً إسماعيل، وأكثرهم عبادة عبد الرحمن، وأختهم فاطمة أم الشيخ صغيرون نظيرتهم في العلم والدين».. ولعل ذِكر«أختهم فاطمة»، كنظيرة لهم في العلم والدين، هي أقدم إشارة تاريخية، تشي بتسامي وضعية المرأة من حالة «الشيوع»، إلى حظوة بالعلم تجعلها نظيراً للرجل، أنظر: الطبقات ص46. وعبارة ود ضيف الله هنا بليغة الدلالة على سماحة التصوف كثقافة، تقبل بتماثل الأنثى مع جنس الرجال إن هي أبدعت، مع ما يحيط بها من قيود القبيلة.. ومن عبارتي «العلم والدين»، يُفهم العلم على أنّه الفقه، والدين في معنى التصوف، وهو فقه وزيادة. في مرحلة لاحقة كانت خلوة أولاد جابر ملاذاً لأبناء العركيين كما أسلفنا في سيرة الشيخ عبد الله العركي، إذ أن براعة الشيخ عبد الرحمن بن جابر وشهرته في التصوف، وفي تدريس الفقه المالكي استقطبت ولاء العركيين والمنتسبين إلى المالكية بعد «تَعقلُن» التصوف على يد الإمام الغزالي.. وقد خرّجت مدرسة أولاد جابر أربعين ولياً على يد الشيخ البولاد، ومثلهم على يد الشيخ عبد الرحمن، فاستعانت السلطنة بهم في مجالات القضاء والادارة.. وانتشروا في الربوع وعمّروا المجالس، فكان كل مجلس لهم بمثابة فرع من المسيد الكبير، حيث نقل «أولاد التنقار» التجربة إلى نواحي الجزيرة، وهيأ نزوح الشيخ صغيرون إلى الأبواب، نقل التجربة إلى نواحي شندي حاضرة الجعليين، مفعمة بأريج التصوف.. وعن ذلك الأريج يقول ود ضيف الله إن الخضر عليه السلام وضع «ساس الخلوة»، وإن الشيخ صغيرون قد حمل «السِّر» من خاله، وهما على جبل عرفات.. «أثناء الحج قال الشيخ إسماعيل، يا زعم ولد فاطمة ما بلغ؟ فمن بركته أنه بلغ الحُلم في تلك الليلة».. وتشير عبارة ود ضيف الله هنا، إلى بلوغ صغيرون درجة الولاية، إذ لا يعقل أن يرمي العبارة، إلى زوال الطهارة الحسّية لصاحب الولاية وهو فوق ذلك الصّعيد الطّاهر. كانت بداية صِيت أولاد جابر بدعوة صالحة من الأم، وكانت نهاية مجدهم بالركون إلى رغبة الزوجة..! أي كأن البداية والنهاية، لخّصت ما استقر في الوجدان حول «صراع النّسايب»، فكانت الدلالة الاجتماعية لهذا، هي أن سطوة الزوجة على الابن، تمحق بركة الدعوة الصالحة من الأم..! فلقد تفرق تلامذة مسيد أولاد جابر بعد زواج الشيخ إدريس بن عبد الرحمن من إحدى ملكات الشايقية، فكانت أن راودته لنقل الخلوة إلى دارها، فرفض الحيران الذهاب إلى الدّرس في بيتها، أو كما قال صاحب الطّبقات «فامتنع الفقرا من ذلك وقالوا: عندها الخدم الجُمال، يُفْسِدِن علينا أدياننا»...! وهذا بحد ذاته، مشهد آخر للترميز، يتخذ من الأنثى، الأُم والزّوجة، أداةً يقاس بها حال الترقي والانحدار الاجتماعي.