بسبب ثورات الربيع العربي كفرت أوربا بالديمقراطية.. تركت الآن شعاراتها القديمة التي كانت تنادي بعدم التعاطي مع الأنظمة المستبدة وطفقت تبني علاقات معها!! هذه العلاقة الجديدة عبر عنها الدكتور نافع يوماً وهو يبشر أنصاره أن أمريكا لم تعد تعادي حكومة الإنقاذ!! أعراض التآكل الأخلاقي بدأت تنتشر على السلوك الأوربي.. هم أول من لاحظ أن «الفوضى الخلاقة» هي مرحلة ضرورية في عملية الانتقال من الأنظمة المستبدة إلى مرحلة الديمقراطية النظيفة. هذا التبرير المنطقي لم يعد له فعالية أما الخوف من مصير الكيان اليهودي في الشرق الأوسط أو نتائج الانتخابات التي دائماً تأتي لصالح «الإسلام السياسي». التقهقر الخلقي كان واضحاً في مساندة الجيش الجزائري والسيسي المصري وهو يحطم صناديق الاقتراع. الديمقراطية التي تفاخرت بها أوربا ردحاً من الزمن يدوسونها بأحذية المصالح.. هذه الفجوة التي أحدثها هذا التراجع القيمي دخلت منها ثورة الشيخ بن لادن لتزيد من أزمة الربكة. اتسعت الفجوة الأخلاقية لدرجة أن أوربا لم تعد تكترث لقتل المئات يومياً في سوريا، وكل ذلك بسبب الخوف من «الإسلام السياسي». استطلاعات الرأي تظهر بوضوح موقف الشعوب في أمريكا وأوربا، الشعوب لا تريد التدخل وهذا هو سبب تراجع الحكومات الفرنسية والبريطانية والأمريكية، لأول مرة منذ عصر التنوير الأوربي أن شعوباً بأكملها تجتمع على الضلال.. ها هم يباركون الانقلاب في مصر بطرف خفي.. لا يؤيدون الانقلابيين بصريح العبارة ولكنهم لا يطالبون بعودة «مرسي» الرئيس المنتخب، يريدون ديمقراطية بدون الإخوان المسلمين! في هذا تناقض غريب لن يؤدي إلا إلى تبرير العنف للطرف الآخر وتوسع من نفوذ «القاعدة» وهي أصلاً ابنة شرعية لفقه الإخوان المسلمين أيام سيد قطب. ٭ تناقضات عربية أما التناقض في المواقف العربية فيبدو بوضوح في مواقف الدول الخليجية: يصارعون المستبد السوري مساندين الثورة الشعبية ثم في مصر ينقلب الأمر: يباركون انقلاب الجيش المصري! تصفية هذه الحسابات هي سبب هذه المليارات من الدولارات التي هبطت على الجياع في مصر لإسكات الأصوات الحقيقية ضد انقلاب الجيش! *** الاتحاد الأفريقي هو الجهة الوحيدة التي قالت الحقيقة في موضوع الانقلاب المصري ولكن ليس حباً في مرسي.. بل كراهية في المصريين! أوربا لعبت دور المنافق حينما طالبت بديمقراطية ولكن دون الإخوان وهناك وقعت في مأزق تعريف الديمقراطية. إن لم تكن الديمقراطية صندوق انتخاب تمارسها إرادة حرة فماذا تكون؟!.. وإذا أصبحت السيطرة على الشارع هي المقياس انفتحت دائرة جهنمية لا نهاية لها. وبالفعل شجع هذا النفاق الأوربي الانقلابيين لمزيد من المذابح كان أفظعها مذبحة رابعة العدوية والنهضة، حتى في تلك المذابح لم يتحرك الضمير الأوروبي الذي عُرف بالشفافية أكثر من غيره. بدا الفرنسيون بنفاق واضح ثم عادوا وصححوا مواقفهم نحو الأحسن حينما ظهرت بشاعة القتل في اليوم الأول.. أما بريطانيا فقد كانت أحسن حالاً في موقفها الأخلاقي منذ البداية ولكنها لم تخرج أيضاً من دائرة النفاق والإدانة الضعيفة! أما الاتحاد الأوروبي وهو الجسم الأشمل فقد كان منافقاً لحد كبير، لم يبلغ موقفه حتى حد الإدانة القوية غير الفاعلة، طالبوا المصريين بضبط النفس وتأسفوا لسقوط «قتلى» وعدد القتلى كان قد تجاوز المئات!! الأمريكان كان أمرهم عجباً، أحدثوا جلبة إدانة واسعة أشبه بتلك الإدانات التي يرسلونها للمستوطنات الإسرائيلية من وقت لآخر، ومعلوم علاقتهم الخاصة بقائد الانقلاب، لهذا عندما سئل المتحدث الرسمي قال بصريح العبارة: إن تسمية حركة الجيش في مصر بالانقلاب ليست في صالح المصالح الأمريكية!! ٭ تناقضات مصرية الانقلاب المصري العسكري المسنود بعدد من الجماهير المصرية أنتج الكثير من المواقف المتناقضة، في الداخل المصري تجد الأحزاب التاريخية التي حاربت الانقلابات لأول مرة في تاريخها تؤيد هذا الانقلاب، كحزب الوفد مثلاً، حتى الأحزاب الحديثة كحزب السلفيين الإسلاميين «حزب النور» وقع في اضطراب عظيم، أيد هؤلاء السلفيون الانقلاب نكاية على مرسي الذي كانوا يصارعونه، ثم وقعوا في مأزق مع أول إعلان للرئيس المؤقت، أيدوا الجيش ثم عادوا يرفضون تعطيل الدستور! الانقلابيون يعتقلون قادة «الإخوان» ثم يعطلون الإعلام ويساندون الجماهير المعارضة في الشارع ثم يعلنون أنهم في مسافة واحدة من الفرقاء! يعلنون أنهم امتداد لثورة «25 يناير» الأولى ثم يبدو في سلوكهم أنهم امتداد لنظام مبارك، تبدو هذه المواقف بوضوح من مساندتهم للحكومة المستبدة في سوريا ومن معاكستهم لحماس في غزة بالإغلاق المتقطع للمعابر وردم الأنفاق. خلاصة المشهد المصري يمكن تصويرها كالتالي: عاد نظام مبارك بكل تفاصيله وبدأ الانتقام الفوري، التغير الوحيد هو استبدال مبارك بالسيسي والأخير في مزاجه أقرب للقذافي ولكنه لا يملك مساحة للتعبير عن نفسه كما كان متاحاً في الماضي وهو من الجيل الخاضع بالكامل للأمريكان ولا يرى غضاضة في ذلكّ!! في يوم وليلة التأم شمل بقايا النظام في الإعلام والأمن والجيش. بدأت تظهر الآن حقيقة الأرقام التي أعلنها الانقلابيون لعدد الجماهير التي أيدتهم، ليس هناك دليلاً مقنعاً أن أنصار «ميدان التحرير» عددهم بلغ العشرين مليوناً، ولكن يملك الطرف الثاني أن يعلن استناداً على أرقام صناديق الاقتراع أن «الشرعية» الإخوانية مستمدة من ثمانية عشر مليوناً، ولكن الثابت أيضاً أن هناك عدداً لا يجب أن يستهان به أيدوا التغيير!! هذا العدد الكبير من الجماهير وضع سابقة لا نعرف لها مثيلاً وهي أن شعباً اختار العبودية في وصاية العسكر هرباً من نتائج عملية ديمقراطية نظيفة!.. وهناك سابقة أخرى هي ظاهرة اللبرالية الدموية حكومة مدنية متعطشة لدم الخصوم أكثر من العسكريين أنفسهم!!