ظلت الإذاعة السودانية ولسنوات طويلة منارة للإشعاع الثقافي، وسدرة منتهى أمنيات كل المبدعين الذين يتوقون لتقديم إبداعاتهم عبر أثيرها، لذلك كان التنافس كبيراً، وكان المنتوج عظيماً ومطراً يهطل على المستمعين إبداعاً وجمالاً ما بعده جمال. كان للإذاعة لجان لإجازة أصوات المطربين والمطربات والألحان قبل تقديمها للجمهور، وكم من فنان هو الآن ملء السمع والأبصار عانى ما عانى مع تلك اللجان حتى تجيز صوته أو أغنيته، لذلك كانت ساحة الغناء نقية وكانت الأصوات طروبة ندية، لذلك أقولها بكل الصراحة إن ما وصلت إليه الساحة الفنية من فوضى نعايش تفاصيلها الآن هو نتاج الحكم الذي أصدرته الإذاعة بإعدام تلك اللجان وإغلاق أبوابها أمام المبدعين وأعمالهم الجديدة، وما عدنا بعد ذلك نستمع لبرامج على شاكلة (ألحان) و(صالة العرض)، وغيرها من برامج وسهرات كانت معنية بالدرجة الأولى بتقديم الروائع من الأغنيات، رفعت الإذاعة يدها عن ما يسمى بالأغنيات واصبحت تعتمد على أغنيات قديمة من مكتبتها (العتيقة)، وبالتالي أصبحت خارج اهتمامات أهل الغناء من شعراء وملحنين ومطربين وخارج تغطية شبكة الغناء. هذا الوضع المحزن أسهم بقدر كبير في أن تفرخ الساحة الغنائية أصواتاً (نكرة .. منكرة) لا علاقة لها بالغناء، تسيدت الساحة وعاثت فيها فساداً الشيء الذي أنتج ظاهرة ما نسميه بالغناء الهابط، وهؤلاء للأسف الشديد وجدوا الساحة خالية من الرقيب أو- كما يقولون- (مولد وصاحبو غايب) وفعلوا (الأفاعيل)، لم يفلح في إيقاف مدها مجلس المهن الموسيقية، ولا إتحاد الفنانين ولا مجلس المصنفات الإتحادي أو فروعه في الولايات. مع صباح كل يوم جديد نسمع أغنية (هابطة) جديدة، وصوتاً أكثر هبوطاً من الأغنية، حتى أصبحت القاعدة الثابتة في ساحة الفنون أن لقاء كل مواطن مغني أو مغنية، ونافس هؤلاء عدد الركشات في البلاد، حتى أصبح السؤال السائد من باب السخرية والنقد (أيهما أكثر عدداً.. المغنيين أم الركشات)؟ إن الغناء لو كانت تعلم الحكومة هو من يشكل وجدان الأمم، وهو عنوان لكل لد وكل شعب، وله تأثيره القوي على النفوس وليس كلمات تغنى فقط. خلاصة الشوف: لابد من وقفة صادقة من أهل الإذاعة ومن كل المعنيين بالغناء للوقوف على حجم الكارثة الغنائية التي حلت بالبلاد، ولا نقول ذلك لأننا من هواة الغناء أو من أهل الطرب، ولكن لأننا ندرك أثر الكلمة المغناة في المجتمع.