قبل أن أتعمق في علوم وأبعاد الأصوات البشرية.. ينبغي أن نعتز بقيمة الصوت الرسالي الذي جاء بإشارات واضحة تعني وتؤكد المدى البعيد والقريب لمخارج الصوت بمدلولات القرآن الكريم «ورتل القرآن ترتيلا».. وتفصيل لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأقرأوا ما تيسر منه»، وتجيء المستدلات بقول الخالق الأحد «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي» إلى آخر الآية الكريم. أقول معطيات الصوت البشري تأتي في مقدمة أصوات المخلوقات الأخرى لأنها ارتبطت بالمنطق العقلاني لفهم قيمة الحياة.. «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون...»، مما يعني أن جوهر العقل ومخارج الصوت خلقت لخصائص العبادة المطلقة تعريفاً بعظمة الخالق ليكون سر الصوت إحدى نقاط التجويد لفظاً وإيصالاً وتقرباً وتميزاً. أقول كل ما جاء في التغيرات وبحور علم الأصوات إنها اختلطت بالنحو والصرف إلى حد ضاع فيه كثير من معالمها غير أنها عادت لتبرز فيما جاء في القرآن الكريم خاصة في علم التجويد «الكثرة الكاثرة» من قواعد الصوت العربي بعلله وأحكامه وهذا أمر فرضته وضعية اللغة العربية التي هي أصلاً لغة القرآن، مما يؤكد أنها اللغة الوحيدة التي تجلس على أعلى مراتب النطق ومخارج الصوت، ويعد علم الصوتيات أحد فروع علم اللغة وفيها كثير من الفروع: علم النحو.. علم الصرف.. علم المعنى.. وغيرها من العلوم.. ليظل علم المعنى SEMANTICS ... هو الأهم من حيث التعبير لما يدور في أذهاننا من أفكار.. وعندما نتكلم نتفوه بالعديد من سلاسل الأصوات المتشابكة التي تتحد لتكون الكلمات والتي بدروها هي الأخرى تتحد لتكون الجمل ومن ثم الكلام.. وقد اتفقت المخطوطات العلمية على أن الأصوات البشرية تنقسم لنوعين: 1. الصوامت: وهي تفسر.. بوجود اعتراض للهواء عند خروج الصوت من الممر الصوتي.. «الحبائل» من قبل أعضاء النطق لتأتي بحور تفاصيله المتنوعة بالإغلاق والتضييق لحروف معينة. 2. الصوائب: هي الأصوات التي تخرج من الجهاز الصوتي وهي تفتقد وجود أي اعتراض من قبل أعضاء النطق سواء بالغلق أو التضييق أثناء النطق، وقد تعمق الباحثون في هذا الأمر كثيراً لمكانة الصوت البشري عبر منفذ لغة القرآن الكريم. أقول اللغة من خلال مكانتها تبدو مرتبطة بمعدنها الرصين.. وتجيء في منحى الترتيل كرسالة أولى لا خلاف عليها، وإذا تعمق الإنسان يجد أن الترتيل يصنع في دواخلنا الاستجماع النفسي والأريحية والخروج من دائرة الضنك.. وقد استغل أصحاب اللغة عظمة هذا الجانب، فانداحوا في الوصف الآخر.. المدح والغناء والإنشاد ليجلسوا على قمة التشويق لكل من هو متابع.. فالصوت عند عظماء القبائل له خاصيته في فرض النفوذ.. فالقائد الذي يتحكم في صوته بمخرج جاذب يكون مقبولاً من حيث الاستماع والتركيز مما يعني إثارة الجوارح لمزيد من الاستماع وإن لم يكن على حق.. وفي القرن الماضي جلس الرئيس المصري جمال عبد الناصر في قمة الإثارة الصوتية.. فكان مكان انتباهة عامة وقبول مطلق في كل العالم العربي.. وتتوالى المشاهد في الإلغاء عبر منافذ الشعر بأنواعه والغناء المصاحب بالعزف الوتري.. والخطابة.. والنقل عبر الوسائط الإعلامية.. وقد تلاحظ جيداً أن الصوت في السنوات الأخيرة في كل أدواره أعتمد على المساعد «المادي» المايكرفون الآلي.. فأصبحت لونية الاستماع تتفاوت بين متحدث وآخر إلا أن جماليات التلاوة القرآنية تظل هي المتوازنة في الإخراج الحرفي يزينها الصوت العذب فيكون الإقبال متكاملاً بغض النظر عن التجويد ليكون المقريء شيخ الزين واحداً من الأصوات العذبة والعميقة في السنوات الأخيرة.. وقبلها هناك مقرئون أمثال عبد الباسط عبد الصمد.. وآخرين.. وفي الإنشاد والمدائح فتعدد الأصوات بشكل جميل ومتميز. أقول إذا انتقلت إلى الغناء حدثني أحد المتابعين لتاريخ الأغنية السودانية مؤكداً لي أن سرور وكرومة وإبراهيم عبد الجليل كانوا يؤدون الغناء بأصوات قوية دون معينات آلية لدرجة أن الأحياء النائية تستقبل أصواتهم في جنح الليل.. باختلاف المعايير في استخدام الأصوات للمعنى الحقيقي.. ليظل الصوت سمة بارزة في التلقي ليقف المذيع عبد الرحمن أحمد.. حمدي بولاد.. وعمر الجزلي وغيرهم على منصة التجويد بأصوات متماسكة وبائنة عند النطق، بينما المذيعة المرحومة ليلى المغربي كانت واحدة من النساء اللائي وضعن صوتهن بصوت مفعم بالتفوق والقبول رغم المحاذير التي تحرم الصوت النسائي.. إلا أن الأذن وثقافة المرحلة أعطت الإشارات لنجاح المرأة في الإعلام المسموع وأتاحت لها بالشرعية المطلقة في الإعلام الآخر فأحدثت نجاحاً مشهوداً. أقول في الخواتيم.. حدث في الآوانة الأخيرة نقد لبعض الأصوات التي تعمل في الإعلام المسموع والمشاهد في مسائل التجويد والنطق لحظة المخارج.. فتوفرت الكثير من الأخطاء الإملائية لتكون موضع نقاش في كثير من المناسبات.. وللأمانة فقد أدهشني في الآونة الأخيرة صوت المذيع مازن صلاح أمين فهو يعد في تقديري من أميز المذيعين.. لأنه يملك قدرات صوتية تساعده لكي يكون رقم في الفترة الأخيرة.. ويؤسفني أن ظهوره في الآونة الأخيرة مقل ومتباعد. خاتمة القول.. أجمل حاجة عذوبة الصوت.. لأنه رسالة عميقة فيها المعنى تعكس سر المغذى وتعطي البعد العاشر وترفع قدر الصوت.. ما أنداه يكون متميزاً.. يكون مسؤولاً. دمتم .