الملك الناسك: كتب جبران خليل جبران في كتابه «مناجاة أرواح» قصة عن الملك الناسك قال فيها: خبرت أن فتى يعيش في غابة من الجبال، وإنه كان فيما مضى ملكاً على بلاد واسعة الأرجاء في عبر النهرين.. وقيل لي أيضاً إن هذا الفتى قد تخلى بملء اختياره عن عرشه.. وعن أرض أمجاده وجاء ليستوطن القفار.. فقلت في نفسي: لأسعيّن إلى ذلك الرجل سعياً وأقف على ما به من الأسرار لأن من يتنازل عن المُلك هو بلاشك أعظم من المُلك.. فذهبت في ذلك النهار بعينه إلى الغاب حيثما كان قاطناً فوجدته جالساً في ظلال سروة بيضاء، كأنما هي صولجانه فحييته كما يحييّ الملوك.. وبعد أن رد التحية إلتفت إليّ وقال بلطف: ما عساك تبتغي في هذا الغاب الأعزل ياصاحبي؟ أجئت تنشد ذاتاً ضائعة في الأظلال الخضراء أم هي عودة إلى مسقط رأسك بعد انقضاء شغل النهار؟.. فأجبته قائلاً: ابني ما نشدت إلاك.. ولا شافني إلا الوقوف على ما حدا بك إلى استبدال مملكتك الكبيرة بهذه الغابة الحقيرة.. فقال : وجيزة قصتي فقد انطفأت فقاقيع غرورى فجأة وإليك حكايتى.. «بينما كنت جالساً إلى نافذة في قصري كان وزيري يتمشى مع سفير أجنبي في حديقتي.. وعندما صارا على مقربة من نافذتي سمعت الوزير يتكلم عن نفسه قائلاً: أنا مثل الملك أتعطش للخمرة المعتقّة وأعشق جميع ضروب المقامرة، ويثور بي ثائر الغضب كسيدي الملك.. ثم توارى الوزير والسفير بين الأشجار، ولكنهما ما لبثا أن عادا بعد برهة، وإذا بالوزير يتكلم عني في هذه المرة قائلاً: إن سيدي الملك مثلي يستحم ثلاثا في النهار.. وسكت الملك الناسك لحظة ثم قال: في عشية ذلك اليوم تركت بلاطي ولا شيء معي سوى عباءتي.. لأنني لم أشأ بعد ذلك أن أكون ملكاً على قوم يدّعون نقائصي لأنفسهم ويعزون فضائلهم إليّ.. فقلت له: ما أغرب قصتك.. وما أعجب أمرك.. فأجابني قائلاً: ليس هنالك من غرابة ياصاحبي.. فقد قرعت أبواب سكينتي طامعاً منها بالكثير فلم يكن لك منها سوى اليسير.. بربك قل لي: من لا يستبدل مملكته بغاب تترنم فيه الفصول وترقص طروبة أبداً ؟ كثيرون هم الذين تركوا ممالكهم ليستبدلوها بأدنى مراتب الوحدة والتمتع بحياة العزلة السعيدة.. وكم هنالك من نور هبطت من جوها الأعلى لتعيش مع المناجذ (وهي من القواضم تعيش تحت الأرض وليس لها عينان ولا أذنان).. في أنفاقها الصامتة فتتفهم أسرار الغبراء.. بل ما أكثر الذين يعتزلون مملكة الأحلام لكي لا يظهروا للناس إنهم بعيدون عمن لا أحلام في نفوسهم.. والذين يعتزلون مملكة العرى ساترين عربة نفوسهم حتى لا يستحي الأحرار من النظر إلى الحق عارياً والتأمل في الجمال سافراً.. وأعظم من هؤلاء جميعهم ذاك الذي يعتزل مملكة الحزن لكي لا يظهر للناس معجباً مفاخراً بكآبته.. ثم نهض الملك الناسك متوكئاً على قصبته وقال: إرجع الآن إلى المدينة العظمى وقف بأبوابها مراقباً جميع الداخلين إليها والخارجين منها.. وإعتد بأن تجد الرجل الذي زعم إنه ولد ملكاً فهو بدون مملكة.. والرجل الذي زعم إنه سود بجسده فهو سائد بروحه، ولكنه لا يدري بذلك ولا رعاياه يدرون بسيادته.. والرجل الذي يبدو للعيان حاكماً، ولكنه في الحقيقة عبد لعبيد عبيده.. ثم تحول عني متغلغلاً في قلب الغاب، أما أنا فرجعت إلى المدينة ووقفت بأبوابها أراقب العابرين بي على نحو ما قال.. وما أكثر الملوك الذين مرت أظلالهم فوقي منذ ذلك اليوم حتى الساعة وأقل الرعايا الذين مرّ فوقهم ظلى.. سلمون الناسك: إنني أعتقد أن جبران قرأ عن الملك النوبي الأسمر سلمون الناسك والذي في آوائل القرن الحادي عشر وبالتحديد في عام 1079م تنازل عن العرش ليكرس نفسه للحياة الرهبانية.. وسلمون اختصار سليمان أو أحد مشتقات الإسم، ولقد كان سلمون حكيماً اشترى خلاص نفسه وقرر الإعتزال وصمم أن يكون ناسكاً عن أن يكون ملكاً ساعياً نحو خلاص نفسه.. لقد سلم المُلك لابن أخيه، وانفرد هو للعبادة والنسك ومضى إلى دير القديس أبو نفر السائح في النوبة، وبينه وبين أطراف النوبة مسيرة ثلاثة أيام.. ويُعد هو أول لاهوتي في كنيسة النوبة إن لم يكن الوحيد فيها.. وكان والي أسوان العربي هو أسعد الدولة ساروكين، وعرض عليه أخوه كنز الدولة أن يحضر الملك الناسك إليه، وقد كان حيث ذهب كنز الدولة مع عشرين رجلاً ركبوا النجب وهجموا على الدير وأخذوا سلمون وأتوا به إلى ساروكين وسيروه إلى القاهرة، وهناك استقبل إستقبالا ملكياً وأكرمه أمير الجيوش وأنزله في دار حسنة مكسُوة بالفراش الجميل، وعاش في هذه الدار مدة سنة ثم ذهب إلى دير الخندق، الأنبا رويس حالياً، وهناك رقد في الرب ودفن مع الرهبان.. ووجد في منزله كتاب الإنجيل باللغة النوبية ورسالة لاهوتية مكتوبة بخط الملك الناسك..