تلازم العنف والقداسة في السلطنة، كان حاضراً منذ نشأتها، لكنّه لم يستعلن إلا عند محكّات الصراع ومنعطفاته الحادّة.. ليس بالضرورة أن يكون ذاك التلازم قد تبدّى مع استعار الصراع بين الحليفين، لكن الحقيقة هي أن غبار صراع الحليفين الفونج والعبدلاب كان كثيفاً، بينما طويت في حوادث الزمان الكثير من الدماء والدموع، ربما بتأثير القداسة نفسها، التي ينشب بها ولأجلها العراك،..! كان الصراع بين الفونج والعبدلاب هو الحدث الأبرز في مسيرة السلطنة الزرقاء.. وكما أسلفنا، فإن نصيحة الشيخ ادريس ود الارباب للمانجلك، ألا يدخل في صراع مباشر مع الفونج، هي نصيحة تحمل إشارات دالة على استعداد الفريقين منذ زمن، لمعركة قادمة فاصلة.. وغني عن القول أن الشيخ ادريس ود الارباب، صاحب القبّة الصامدة حتى اليوم في العيلفون،هو أكبر أولياء السودان، وأكبر قامة روحية في منتصف القرن السابع عشر. الأمر في تجرده كان منافسة وصراعاً على السلطة، لم يخفف أواره التحالف، ولا المصاهرة، ولا النصح.. كان الشيخ عجيب المانجلك، قائد الوتر العربي في التحالف، ينطلق من ثقافته العرقية والعقدية، التي ترفض الخضوع لمن يرى أنهم خارجون على الدين.. الشيخ عجيب ذي الأصول العربية، رغم مذهبيته الصوفية، لكنه في النهاية يتكئ على نصوص من الكتاب والسنّة، تبرر مواقف فريقه، باعتباره داراً للإيمان. هذا الموقف، لا يُلام عليه المانجلك، في حقبته تلك، لكن يُلام عليه فقهاء من هذا العصر، ممن يؤيدون الدولة الدينية وفريضتها الغائبة، معتمدين ذات الفهم "المانجلكي" للدولة ولمّا كان المانجلك قد استند في صراعه ضد حلفائه على نصوص مقدسة، فقد كان تغييبه بالقتل هو الخيار الأمثل، وإلا لكان انتصاره على أمراء الفونج، بمثابة "إنقاذ باكِرة" وكاملة الدّسم، في زمانٍ عجيب ومنذ مقتل المانجلك، تخفى جنوح الصوفية نحو السياسة وراء الأحجبة والحروز، ولم يستعلن نشاطهم من وراء الكواليس إلا في عهد المهدية الأول، ليخبو مرّة أخرى في عهد التعايشي، ثم يعود في بداية القرن العشرين بعد أن تجاوز الزمان أدواتهم القديمة..تلازم القداسة والعنف في رحاب السلطة، جعل الصوفية والفقهاء معاً، يتخفون وراء أنماط النشاط الاجتماعي والديني، إذ أن ذاك التلازم يعني أن "الدولة" قد أسُتغِلّت كاداة باطشة بالمجتمع، وبذلك تغلفت الكثير من المواقف وأوغل السلاطين في تعضيد نفوذهم الاجتماعي عن طريق التبرير القدسي لمواقفهم. وليس بالفتاوى وحدها يعضِّد السلطان قبضته، فهناك أبواب كثيرة يدخل العنف عبرها إلى مسرح السياسة، وهناك أكثر من وجه قابل للاصطباغ في الجانب الآخر أيضاً، كانت القداسة حاضرة، كتقية، لتمرير الاعتراض، ضد سلطة غدت تجافي رضا الأطراف المتحالفة.. فما يسمى ب "الشورى" عند الفقهاء، وفق فهمهم للنص، صار مبايعة مفروضة من السلطان، الذي بيَّت بها أمراً يريده..! والأمر الذي يريده السلطان غالباً هو وراثة نجله للملك..! وما يسمى "أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر"، تضاءل، ليتخصص القائلون به، في خصوصيات العامّة، بنقد أخلاقهم وسلوكياتهم البكاء على شريعة الأحوال الشخصية الاغفال المتعمد لحاجة الناس للخبز والحرية، بالانصراف نحو تجريمهم التحسر على حال المرأة البكاء على تفشي الفسوق فى المجتمع إلخ ، إلخ،، واعتبار مثل هذه القضايا هي أس البلاء والشقاء الاجتماعي.. بهذا وذاك، حدث الفتق في الرتق الذي ميًز علاقة المجتمع بالسلطة الدين والسياسة الأولياء والسلاطين. بهذا، بان الفصام في شخص الحاكم،الذي كان إجتماع الولاية الروحية والسياسية فى شخصه دليل قوة..بان الفصام، حين جنح السلطان بذاك النفوذ، نحو إشباع نزواته وتطمين هواجسه في الخلود، وهيهات.