من أمثلة تسربل الموقف السياسي بالقداسة، ما أثارته وتثيره، عادة تعاطي «التمباك» من جدل بين السودانيين، في الماضي والحاضر.. في الماضي اتُّخِذت عادة تعاطي الصعوط أوالتبغ، كقضية رأي عام، تستعلي على قضايا حياتية كثيرة، لها تأثيرها المباشر في معاش الناس.. كانت ظاهرة تعاطي التمباك من أكبر هموم النخبة والعامة، في عهد الفونج، وقد ذكر ود ضيف الله في طبقاته، شواهد كثيرة على اهتمام مجتمع دولة سنار بتلك الظاهرة وذهول الرأي العام بها... على أن البت في أمرها بطبيعة الحال، لم يكن شأناً يخص "أهل العِلم"- حملة النّص- دون غيرهم، بل أن أطرافاً كثيرة كان لها الحق في الحديث، قدحاً أو مدحاً في متعاطي التبغ، بالتالي جاءت الفتاوي بشأنه، امثولة لامتزاج الفتوى، بما هو ديني وما هو دنيوي.. في عهد قريب كان التبغ رمزاً للكبرياء والألق، بل أن تعاطيه ارتبط بكاريزما قيادات حركات التحرر في عصر الاستعمار.. كان التدخين ثقافة كونية، وكان المُدخِّن هو من يستوعب العمق الفني والجمالي في الأشياء.. هو المغامر الرابح ومكتشف الذهب.. هكذا أبرزته موجة الدعاية الطاغية في كافة الوسائط طوال القرن العشرين.. وعلى النقيض من ذلك كان فكر الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر يرى التدخين شرا، حيث تشددت الحركة الوهابية في تحريمه، إلى درجة أن العامة منهم، في جزيرة العرب، كانوا يعتبرون المدخن كالمشرك.. وربطت الدعوة السنوسية في ليبيا، بين تعاطيه وبين موالاة النصارى.. أنظر: عبدالودود ابراهيم شلبي، الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته، ص200.. ولم يختلف المهدي في السودان عن هذا السياق، فقد أفتى بتحريمه ورأى فيه رممزاً للغطرسة التركية، أصدر فيه منشوراً، وصف التنباك بأنه «رجس من عمل الشيطان».. أي أنه مثله والخمر والميسر والأزلام، وقد كانت عقوبة متعاطي التمباك تصل الى القتل، وتخفف بمصادرة الممتلكات، أو السجن أو الجلد، أو بهذا كله...... الشاهد هنا أن موقف المهدية من التمباك- كان التزاماً بموقف اجتماعي- لأن التدخين ارتبط في الذهن السوداني بالجرح الذي أصاب الكبرياء الوطني بعد حملات الدفتردار الانتقامية، بحادثة إحراق اسماعيل باشا في شندي إثر ضربه لزعيم الجعليين- المك نمر- بغليون .. وتشير شذرات ممّا دوِّن عن تلك الحقبة، أن رائحة التبع، ارتبطت بالضرائب الباهظة التي فرضت على الأهالي، لأن الجباة كانوا يستخدمونه، فكانت رائحته في فضاء القرى، كافية لإعلان دخول الجند القساة بين فرجات الدور.. يضاف الى هذا أن الذهنية العقدية تتحرّج وتتوخى الحذر من اللذة الحسية وتتبنى فكرة تأجيلها والاستمتاع بها في الدار الآخرة، وهذا ما عليه غالبية الموسومين بمشايعة مبادئ التديُّن.. الموقف الرافض لتعاطي التمباك، يمتد إلى بدايات عهد السلطنة الزرقاء، حيث وقعت بشأنه المناظرة الشهيرة، بين الصوفية والفقهاء.. في أجواء تلك المناظرة، تتمظهر بوضوع منابع ثقافة النخبة والتي هي مزيج، بين المذهبية الدينية والعرف.. وقد كان مناخ المناظرة، مناخاً سياسياً بالدرجة الأولى، لأن ميدانها كان بلاط السلطنة، حيث دارت المناظرة في مجلس الشيخ عجيب المانجُلك، زعيم العبدلاب، مثّلَ الصوفية في تلك المناظرة، الشيخ إدريس ود الارباب، والذي يقول بتحريم التمباك، بالاستناد على فتاوي عثمانية، مقروءة على ضوء نص مالكي.. قال الشيخ إدريس ود الارباب في المناظرة بأن التمباك حرام:"حرمه سلطان الاسطنبول ومذهب مالك اطاعة السلطان". الطبقات، ص52... مثل هذا القول- إطاعة السلطان- كان جديراً بأن يخرج الحاكم من حياده المتوهم..! طالما أن الشيخ الصوفي، ممثل ضمير الأغلبية، قد عزف على وتر الطاعة، فليس للسلطان إلا أن يعضِّده ويطمئن إليه..! نواصل