بورتسودان مدينة مُدهشة، أو هكذا كانت هذا موسم «لقاح التَمُر» في الشّمال.. هذه بداية الصيف، حيث احترار الجو.. كان مغتربونا قبل موضة الاغتراب في الخليج يعودون من بورتسودان الى الحِلّة، مُمتلئِينَ بحكاوي، البحر والمِلح ومائه الأزرق، الذي لا يُمكن أن تغطس فيه، لأن «الحوريات» يَعِشْنَ فى أعماقه.! كان مغتربونا يعودون ب "قطر كريمي "، ثم يركبون الباخرة من هُناك، حتى مُشرع البلد، حيث ننتظرهم نحن شفّع الحِلة بالحمير. في الأمسيات، نتقرقص فوق القيزان، نسمعهم يحكون قصصاً عجيبة عن الفنار والكَهارِبْ، وبنات الشرق و"البَنات إتْلَمْلَمَنْ جَنْ / زي كهاربْ المِينا ضَوَّنْ"..! وكثيراً ما كانوا يحدثوننا عن كدايِسْ بُورتسودان، وأنّها أصلاً ليست كدايِسْ "بِنْت أُمّها وأبوها"..! إنّهم يرونها حوريات بحر، أو "سواجنية" خرجت من الجِرار التي رماها سيدنا سليمان في العُمق.. كانوا يصفون ألوانها المائلة مع ألوان الموج، ويقولون أنها ضخمة كعُجول السّواقي، وأنّها تتقمص أرواحاً صفّدها سيدنا سليمان، ومع مرور الوقت تكسّرت جِرارها، وخرجت الى البر..! يقولون إنّها تتحدث مع رواد المقهى، ترفع يدها، وتنظر في عينيك بايحاءات ماجِنة، وتقول ليك " أديني عديل"..! يقولون، إنّها من جُند سليمان، وبعضهم يذهب بأصلها الى حواري البحر المالِح،، لكن الراجح عندهم، أنها جاءت الى قهاوي الميناء من سواكن- سواجِنْ- التي سجن فيها، سيدنا سليمان،" شواطينه"..! كان مُغتربونا، يأتون بالطّواقي وبالشّالات الحجازية، وبعطورٍ ينسبونها الى المدينة المُنَوّرة، ويُلْهِبونَ خيالنا بتلك القصص المُذهلة عن مُواء الكدايِسْ الذي يوحي بمعانٍ، تؤكد أنها من نسل جماعة "بِسم الله"..! يقولون إنّها تتواجد في المقاهي.. ما أن تجْلس حتى تشعُر بها "تِتْحكحك" تحت قدميك، فإن زجرتها، أو ضربتها " الله قال بي قولكْ"..! كانوا يحذرون من إيذائها، وهي على أية حال- كما يقولون- لن تغادر، إلا إذا اقتسمت معها" الطلب"..! وكان بعضهم يوغِلُ في الحديث عن أنّ زواج الإنس من الجِنْ حلال.. وبعضهُم يقول: قِطِع شكْ، أنّ السَعيد في دنيتو، يعرِّس ليهو حورية بحر، عشان يَغنى، لا جَنى الجّنا..! أها، الكلام دا، عشعش في راس واحد قريبنا، ودخل في قسم، إلا يمشي يجرِّب حظو مع كدايِسْ بورتسودان.. وبعد شويّة عصْلج، وأبى يمشي المدرسة، وأبى ينزل التِحتانية كمان..! الجماعة في بورتسودان، سَمعوا بي قِصتو، فكتبوا لناس الحِلّة وقالوا : "خلّوهو يجي "الزول، يومين والتالت، طبَّ في بورتسودان، وأول نزِلتو في بيت العزّابة في أبو حشيش، راح يِتْلَفّتْ، يفتِّش، عن الكدايس، دايِر متين يمرُق القهوة ويشوف..! إنتظر عودة كلّة الشِّغيلة من الميناء، وعصراً بدري، الجماعة إتلبّسوا ومرقوا، وضربوا القهاوي،، وزولك لسه كان عايش مع حكايات سواجِنْ، وحوريات بحرها..! أول ما قعد في القهوة، زولنا يحس ليك بالكديسة، تِحِتْ كرعينو، تَتْحَكْحَكْ في سِروالو..! أُمّكْ.. نظرَ إليها، ك " سواجنية"، وليست ك " كديسة"..! فقد كان يبحث بين عينيها، عن خيط انثوي يُلْحِقه "بالصالِحين"..! شويتين، ماءت "السَواجنية" مُواءاً أحسّ به كحنانٍ أُنثوي دافئ.. ثمّ رفعت يداً ضارِعة، كأنها تقول له شيئاً أبعد من حكاية "أديني"..! هذا- بالضّبط- ما جعله يُخاطبها محاكياً حركة يدها، ويقول: وِكْتينْ إنتي بِتعرفي "لامِنْ كَدِي"، ما تجي تَقْعُدِي فوق الكُرسي، وتَطْلُبِي لِكْ طَلَبْ..! الآنَ..هل ما زالت كدايس بورتسودان تموء في المقاهي، أم أن زمان الإنقاذ، ألحقها "بالصّالِحينْ"..؟!