لم يكن رحيل الشيخ المفكر بروفيسور الترابي مجرد انتقال مادي الى دنيا الخلود في سنة كونية ماضية، بل هو أفول نجم ساطع في سماء الفكر، في زمن توقف نمو كثير من العقول عند مشارف النفس ومطلوباتها ومحدودية الرؤية، طلباً للأمن والسلامة ومنجاة من الأذى وابتغاء المصالح. لمع بريق الشيخ الحافظ للكتاب كمفكر دارس للشريعة ومتعمق في التحليل، ومجدد في الفقة، مما كشف عن مخالفة بينة لم تعييه فيها الحجة ولا القدرة على مقارعة مساجلية، بما يملك من منطق وإيمان بمبادئ جعلته لا يفرق بين البقاء في داره بالمنشية، أو بين حوائط السجن عندما بدأ باظهار رأيه المخالف للمكون السياسي، والنظم الحاكمة في حقب متعددة من الزمان. كان على غير مايرى كثير من الناس، وكان كثير من الناس على غير مايرى، فقد كان لبيباً ذا عقل استنباطي معرفي، لا يترك فكرة مؤمن بها، إلا أوجد سبل التدليل عليها، وبسط شواهدها متخذاً مما حباه الله من حجة ومنطق وبيان، ووفور حظ من البلاغة والمعرفة، مستأنسة من الكتب ودقة الملاحظة واتساع رقعة المشاهدة التكاملية الى ماوراء المحسوس، الى مدى المخبوء الذي لا يستطيع العقل العادي التوصل الى مراميه. رحل الشيخ في هدوء يشبه سمته الوقور، ويساوي عقله الموفور، بعد أن خط آخر سطر في سفر حياته الجامعة، وانداح في تماهي الجمع الوطني خوفاً من الفرقة والشتات.. كان همة الوطن مما يغريني بذكر مآثره الشخصية، فقد كان ليناً أمام خصومه، صبوراً على مواضي الزمن، حازماً في غير دعة، راشداً بلا خيلاء. التقت فيه خصلتان فريدتان واحدة موروثة وأخرى مكسوبة، وقد مكنت المورثة للمكسوبة أن تستشري فكان النبوغ الذي أبرز مفكر بأسلوب حداثي غير معهود، فاضحي صاحب نهج مبتدع. نهل من مدرسته تلاميذ من شتى المذاهب ورحل وترك في بطون الغيب أوراقاً لم تقرأ بعد. زاوية أخيرة: ألا رحم الله الرجل الأمة وتجاوز عن مآخذه ونفعه بعلمه في دار الخلود، اللهم فاجعل لنا من أنفسنا صارفاً عن المعاصي، وقيض لنا بجميل عونك هادياً لطاعتك وارحمنا إذا ماصرنا الى ماصاروا إليه.