كانت مايو قد بلغت آخر أيامها بعد أن ترنحت يسرة ويمنة، جاعلة الأحزاب السودانية كومبارس خلفها في مشهد عبثي لم يسبقها عليه أحد، رحلت اليهود الفلاشا من اثيوبيا الى فلسطينالمحتلة، ولم يرمش لها جفن، ولم تذكر أن هاهنا عاصمة اللاءات الثلاث، البلد التي ضمدت جراح جمال عبدالناصر بعد هزيمة 67، وصالحته مع الملك السعودي فيصل عند مقرن النيلين. كنت صبياً فى الثانية عشرة من عمري، لا أعرف معنى الاجتماعات السرية، أو المناشير السرية أو طباعة الرونيو، تلك مصطلحات كانت بالنسبة لي مثل كلمات غريبة جداً، تتلخص مهمتي في توزيع أكواب المياه الباردة ويعقبها الشاي السادة، ذلك زمان لم نكد نعرف عاملات المنازل الأجنبيات، كانت الاجتماعات تعقد شبه يومياً في بيتنا، يأتون متخفين آخر الليل يدخلون فرادى بعد أن يوقفوا سيارتهم بعيداً عن دارنا، إلى أن داهمت القوات الأمنية بيتنا في إحدى الليالي في أواخر مارس 85، لكن كان هناك من سرب للمجتمعين خبر إخبارية عن تجمعهم، وتوقع بأن يأتوهم مدججين بالسلاح فآسروا السلامة وحولوا الاجتماعات الى مكان آخر. في هذه الفترة بدأت مظاهرات يومية يقودها الشباب في الأحياء تنوعت ما بين نهارية وليلية، على صغر سني وقتها كنت أتبعهم في مسيراتهم وعندما يقابلنا (كومر الشرطة) ممتلئاً بالجنود، كان الهتاف يتحول الى (يا بوليس ماهيتك كم ..رطل السكر بقى بكم)، وكان سعر رطل السكر قد ارتفع الى 3 جنيهات، لكن المدهش أن الشرطة كانت تتركنا لحال سبيلنا ولا تقوم بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، وإن كان قد شهدنا رجالات جهاز الأمن يستخدمون(الكرباج) فى جلد المتظاهرين داخل حيَّنا بمدينة الخرطوم بحري بالعاصمة السودانية. في صباح اليوم السادس من أبريل اوقفت الإذاعة برامجها وبدأت تنوه عن بيان عسكري يذاع بعد قليل، وتعود المارشات العسكرية لتعزف من جديد، بعيني صبي كنت ارقب تلهف أهل بيتي وهم يضعون آذانهم منتبهة تنتظر سماع بيان القوات المسلحة، حتى أذيع بيانٌ أعلنت فيه القوات المسلحة انحيازها الى جانب الشعب، لم يكمل أبي الاستماع للبيان بل خرج وهو يرتدي جلبابه الأبيض الناصع، خرج وهو يمسح دموعه فرحاً بسقوط نظام الطاغية، انطلقت معه في الشوارع نمشي وسط ارتال البشر الفرحين، كان أبي يمسكني من يدي اليمنى ويسير، وكانت أغلب الناس تسير نحو القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، لكنه أخذني الى طريق ذهبت فيه قلة من الناس، أنه الطريق الى (سجن كوبر).. وعندما وصلنا إلى السجن، والصوت ضائع وسط الهتافات القوية للمتظاهرين سألت أبي: لماذا يحاصروا السجن ولماذا يطالبون بإخراج المساجين، وفي ظني وقتها أن السجن للصوص فقط، فانتهرني بلطف وقال لي أنهم (معتقلين سياسيين) وليس لصوص، وأنهم اعتقلوا ليسقط الطاغية، لذا وجب إخراجهم من المعتقل ليشهدوا سقوط النظام الذي أعتقلهم، كانت هناك سيدات وأطفال في مثل عمري يقفون محاصرين السجن، يهتفون هتافات مختلفة بلغت عنان السماء، وانفتح باب السجن، وخرج منه رجالاً كالأسود والدموع تفر من مآقيهم راحوا يحتضنون أطفالهم ونساءهم ويقبلون الأرض فرحاً. كنت أرقب والدي بعد أن اطلق يدي وراح يصافحهم ويشد على أيديهم، وصوته قد بحُ من الهتاف يومها كان أول يوم لي في إدراك قيمة اسمها قيمة الحرية، وفي كل عام في ذكرى السادس من أبريل تعود بي الذكرى الى مشهد دموع فرح المعتقلين، وهم يخرجون من السجن..