عندما بدأ الراهب الشاب دانيال كمبوني خدمته لأفريقيا كان له من العمر ثمانية عشر عاماً، شاباً يمتلئ بالحماس الدافق والغيرة المقدسة، ولكنه كان يعرف ظروف المبشرين الذين يأتون من أوربا وعدم إمكانية وقوفهم ضد المرض وقسوة الحياة، لقد احتملوا شظف العيش، ولكن المرض كان ينتهي بالموت، ولهذا تأكد دانيال كومبوني إنه من الأفضل أن يخدم أفريقيا شباب أفريقيا، وبدأت القصة بمجئ دانيال كومبوني علي رأس وفد المازا المكون من ستة أشخاص وهولاء بعد رحلة طويلة في الصحراء في طريقهم إلى الخرطوم، قابلوا كيرشنر الذي أصبح فيما بعد وكيل المطرانية.. وسافر كيرشنر معهم حتي وصلوا إلى إرسالية الصليب المقدس، وكانت نصيحة كيرشنر لهم أن يهتموا بدراسة لغة الدنكا وعاداتهم، ثم عليهم أن يؤسسوا إرسالية جديدة في نفس مكان إرسالية الصليب المقدس. سار العمل في إرسالية الصليب المقدس سيراً حسناً في البداية، فقد تمكنوا من جمع وكتابة 3000 كلمة من لهجة الدنكا في الشهر الأول، ولكنهم كانوا يعيشون مع الموت.. موزقان، أول الرواد من المرسلين ، الذي بدأ و أنشأ إرسالية الصليب المقدس عام 1854. هذا الرائد مات قبل وصولهم بأيام قليلة. وبعد ستة أسابيع، أصاب المرض الأب اوليبوني، ثم إشتد عليه المرض ومات، وقبل موته قال هذه الكلمات للمرسلين الواقفين حوله مرتعبين :( أنا أموت .. استمروا في أداء العمل الذي بدأتم القيام به و إذا حدث أن واحداً منكم فقط بقي في هذا العمل – فليستمر ولا ييأس و لا يفقد الثقة بربه و بنفسه.. الله يريد تجديد أفريقيا). فتشجعوا، وتعهدوا بقسم على الإستمرار، و بدأوا إرسالية جديدة بين الدنكا أبيالانج و بشروا بالإنجيل في أماكن كثيرة.. ولكنهم لم يتمكنوا من تطوير الإرسالية الجديدة لعدم وجود الإعتمادات الكافية، كما إنهم جميعاً أصيبوا بالمرض.. وبعد ذلك جاء الأمر بمغادرة الجميع فرجع كمبوني إلى إيطاليا في عام 1859 بعد خدمة 11 شهراً في إرسالية الصليب المقدس ومع التعب و لمرض . ذهب كمبوني إلى روما في عام 1864 للمشاركة في الإحتفال المقام هناك لتكريس وإعلان أحد القديسين... وعندما زار كمبوني قبر القديس بطرس، كان يصلي من أجل أفريقيا وحياته الروحية، وهناك أحس بالإلهام الذي قاده إلى وضع الخطة للتجديد الكامل لأفريقيا.. خطة مؤسسة على إيمانه وخبرته وثقته بأن الله فعلاً أراد تجديد أفريقيا كما قال الأب اوليبوني.. ويصف كمبوني خطته هكذا: أثبتت الخبرة والتجربة أنه من المستحيل على المرسلين الأوربيين أن يعيشوا ويعملوا في تلك الأقاليم الحارة في أفريقيا الوسطى . كما أنه وضح بالتجربة استحالة إستيعاب الإنسان الأفريقي للتدريب الكاثوليكي في أوربا.. فلماذا لا ننشئ معاهد تدريب على إمتداد الساحل الأفريقي لتوجيه الشباب الأفريقي نحو الإيمان المسيحي ولتعليمه وفتح أبواب التمدن أمامه، محتفظاً بأفريقيته بدل أن يتفرنج في أوربا؟ هؤلاء الشباب يمكن إرسالهم بعد ذلك إلى قبائلهم في الداخل كحرفيين مدربين، أو معلمين وملقنين للحقائق الدينية في الكنائس.. أما الدراسات العليا فيمكن تدبيرها للمتفوقين، الذين يتميزون بروح القيادة في دولهم و بلادهم الأفريقية وتشجيعهم على شغل الوظائف، حتى يأتي اليوم الذي فيه يكون لأفريقيا كهنتها و مطارنتها. خطة كمبوني: وقد أوجز كمبوني هذه الخطوات للأخذ بها إنشاء معاهد كبيرة للتدريب الديني و المدني، على أن تكون في الأماكن المهمة في قارة أفريقيا.. مثل : القاهرة، الجزائر، رينيون ( جزيرة في أقي شرق القارة ) وبعض المراكز في غرب أفريقيا. لا بد من تدريب الرجال و النساء في هذه الأماكن . المرسلون الأوربيون الذين يرسلون إلى أفريقيا، يجب أن يلحقوا بهذه المعاهد حتى يتمكنوا من أقلمة أنفسهم. في نفس هذه السنة بالذات، قام (هنري فين) الأمين العام لجمعية (CMS) الإنجليكانية بخطوة أكثر تقدماً في غرب أفريقيا، عندما كوَّن إرسالية في نيجيريا (إرسالية دلتا النيجر) والتي كان يديرها ويقودها مطران أفريقي هو المطران صمويل ادجاي كروثر، واستخدم الأفارقة كمرسلين . وكانت خطة كمبوني شبيهة في روعتها وفي مفهومها بالرؤيا التي بني عليها( فين) خطته، ولكنها تنفرد بأفضلية واحدة، حيث إنها كانت خطة متكاملة.. كانت خطة إستراتيجية لتبشير أفريقيا، ولكن مثلما حدث لخطة(فين ) في غرب أفريقيا، فخطة كمبوني أيضاً كان من الصعب أن تحظي بالقبول، لأن الأقلمة المحلية لشؤون الدين لم تكن متبعة في الكنيسة الكاثوليكية في عام 1864. واختار كمبوني أن يبدأ من القمة، من روما.. فذهب بخطته أولاً إلى الكردينال برنابو، وهو الشخص المسؤول أمام مجلس الكرادلة، كان للفكرة الجديدة التي قدمها كمبوني تأثير قوي علي برنابو.. فأمر كمبوني بأن يطبع خطته وينشرها، مع إنه بدأ يشك فيما بعد في مدى نجاح الخطة، رتب برنابو مقابلة لكمبوني مع البابا بيوس التاسع، الذي كان قبوله للخطة إيجابياً ولكن بتحفظ، لم يكن هناك مكان للسرعة التي صاحبت إعتماد خطة كاسولاني منذ 18 سنة، حيث أصدر البابا بيوس التاسع أوامره إلى كمبوني بعرض الخطة على رئيس هيئة نشر الإيمان المسيحي، في باريس، وأن يعمل مع قادة الكنيسة الأفريقية والهيئات المرسلية الأخرى للموافقة علي كل ما تتضمنه الخطة. قُبلت الخطة الجديدة من قادة الإرساليات الكاثوليكية قبولاً حسناً بصفة عامة، وآخرون لم يستحسنوا قبولها، فمثلاً : (بيلترامي) المرسل صاحب الخبرة الطويلة، وشريك الخدمة مع كمبوني في السودان، كان يعتقد أن كمبوني مجنون، فالمرسلون حاولوا وقدموا أفضل ما عندهم، حتى إنه لم يكن هناك شيء آخر يمكن عمله، حتى دون نيكولا مازا نفسه، كان يرى أن الخطة غير واقعية، لم يعترض مازا على فكرة (إنقاذ أفريقيا بواسطة الأفريقيين).. ولكن كيف يستطيع معهد مازا الصغير القيام بالتبشير في كل مكان في قارة كبيرة مثل أفريقيا؟ وبدأت الشكوك حول الخطة بأنها ( مثالية أكثر من اللازم ) أو أنها بسيطة لا تفي بالغرض، حتى أن برنابو بدأ يغير رأيه.. ولكن كمبوني كان مرناً فيما يختص بالتفاصيل وفن التنظيم مع تمسكه بكل إقتناع أن خطته الأساسية (أن نربح أفريقيا بالأفريقيين، هي خطة صحيحة). بدأ كمبوني يتحرك لتعزيز خطته، وليجمع المال اللازم ليبدأ عمل الإرسالية مرة أخرى، فإذا نجح، فسوف يبدأ بحسب ما جاء في الخطة، فقد تم تخطيط المشروع كله بعناية من كل نواحية، ولكي يبدأ إرسالية المطرانية مرة أخرى، كانت أمام كمبوني بعض الموضوعات المباشرة لتحقيق أهدافه: كان في حاجة إلى منطقة جغرافية محددة ليعمل فيها، فطلب من الفرنسسكان ليسمحوا له بجزء من السودان. كان في حاجة إلى مراكز للتدريب في الأماكن المعروفة في أفريقيا، وكان يرى أن القاهرة هي الاختيار الأفضل. كان في حاجة إلى مدربين موهوبين لتدريب المرسلين لمراكز التدريب. في إرسالية مثل إرسالية أفريقيا الوسطي، كان كمبوني في حاجة إلى إمداد مستمر من المرسلين.. وكان يريد أن يجد هيئة من الهيئات المسؤولة عن الإرساليات لمساعدته – و إلا فعليه أن يكوِّن هيئته بنفسه. والأهم من كل هذا، أنه كان في حاجة إلى تعضيد وتمويل مالي.