وأخيراً ترجل الفارس المقدام ورجل المهمات الصعبة التي كان لا يقدر ولا يقدم عليها غيره، وتوقفت الأنفاس في ذلك الجسد الفارع ذو الروح البسطة الذي ارتحل جراء علة مستعصية ظل يقاومها طويلاً في صبر وإيمان ولم يستسلم أبداً وبقوة عزيمة وإرادة مزاولاً نشاطه في خدمة الناس حتى تمكن منه المرض، الذي أقعده تماماً على السرير لأكثر من عشرة أعوام، لا يتحرك إلا بمساعدة ومعاونة، نسبة لتعطل السلسة الفقرية، ولما أصاب قدميه من جروح نتيجة لمضاعفات مرض السكر ، لقد تحمل كل ذلك في جلد ودون يأس من رحمة الله، لم يتبرم مطلقاً أو يشعر زائره بما يعاني من آلام مبرحة فوق طاقة البشر- حسب وصف أحد المعارف من الأطباء -وبعد معاناة طويلة سكت القلب الكبير وهتف الناعي في آفاق الدنيا ومن أم الدنيا مصر.. لقد مات يس ميرغني ورحل الإنسان العظيم وتوقف القلب الكبير، الذي كان يجيش بالحياة ويتدفق بالآمال التي تترجم في خدمة الغير، لأن الراحل المقيم قد وهب حياته وبذل نفسه وأوقف ما يملك مادياً وجسدياً في صنع المعروف وإغاثة الملهوف مهما كلفه ذلك من تضحيات، حين جاء الخبر لم يصدق أحد النبأ الحزين أن يس قد مات بغتة، ذلك لأن الراحل المقيم لم يكن مجرد إنسان، ولكنه كان رجلاً عظيماً – رجلاً استثائياً في كل شيء، بل كان رجلاً أمه اجتمعت فيه كل الخصال المحمودة في البني آدم، كانت الشهامة أساس عظمته، والخلق عنوان شخصيته، والمروءة دليل إنسانيته، والبشاشة عنوان شخصيته، ولأنه رجل اكتملت في شخصيته كل السجايا السودانية الأصيلة التي جعلت منه رمزاً ورقماً شامخاً وسفيراً شعبياً للسودانيين في المملكة السعودية ومدينة جدة على وجه الخصوص، تشهد على خطواته مطارات وموانئ جدة مستقبلاً ومستضيفاً ومودعاً للناس لأكثر من خمسة عشر عاماً متصلة – أجل لقد رحل يس الرجل الهميم وانجلى الشك عن اليقين الأليم، وتكشفت الظنون عن الواقع وتأكيد الرحيل المر، وغمرت الأهل والأصدقاء والمعارف الكُثر الفاجعة في الرجل الذي كان محط الأمل ومناط التكاليف الكثيرة، التي كان يؤديها وينجزها في سرعة وسماحة وارتياح للمعروف – لقد رحل يس ميرغني الشهاب الذي أضاء فاحترق في ريعان عمر القوة والفتوة، الذي وهبه صدقه جارية ولم يلتفت الى نفسه مطلقاً، لقد حببه الله الى عمل الخير وأعانه عليه (وكل ميسر لما خلق له (ظل يخدم الناس وهو مقعد على سرير المرض بتوظيف علاقاته مع الأصدقاء الكثر، والذين وقفوا معه وقفة النبلاء الأكرمين لا يخلو منزل أسرته بالحاج يوسف من الزوار زرافات ووحدانا، كان يلقاهم بود وترحاب ويكاد ينسى علته، وينهض لتحيتهم يؤانسونه ويخففون من آلامه وهم يعلمون معاناته ليس من آلام المرض المبرحة فحسب دائماً لحبسه عما خلق من أجله في خدمة الناس، رغم أنه ظل يخدم ذوي الحاجات من خلال علاقاته الواسعة بالاتصال هاتفياً على الكثير من جهات تقديم الخدمات، التي وثق علاقته بهم إبان ارتباط عمله بمطار جدة بالمساعدة في استخراج الأوراق الثبوتية، وتذاكر الطيران والجوازات، بل كان خير معين لأبناء وبنات المغتربين في القبول للجامعات والسكن وغير ذلك من الخدمات والاحتياجات، كما ظل يقدم المساعدات المالية لبعض الأسر المتعففة لا سيما شرائح الأرامل والمطلقات والأيتام، منذ أن كان يعمل في المملكة وأصبح وهو طريح سرير المرض كأنه إدارة علاقات عامة وصندوق للدعم الاجتماعي، حيث كان يقوم بتوزيع ما يحوز به الأصدقاء على تلك الأسر التي يعرفها ويتصل بها، لا يهدأ له بال إلا إذا قام بتوزيع كل المساعدات الشخصية التي تقدم إليه من الأصدقاء والأهل والمعارف –رحل يس ميرغني وفقده ذووا الحاجات الذين كانوا ينتظرون ما تقدم يمينه مالا تعلم به شماله، وفي الواقع كان يشير للواحد منهم بأن يأخذ حاجته من تحت الوسادة (المخدة) لقد فقده اولئك كما فقده أصدقاؤه ومعارفه قبل أهله، لقد كان طوال إقامته بالمملكة حمامة سلام في الإصلاح بين الناس وفي توفيق أوضاع الزوار من المعارف أو المساعدة في إيجاد وظائف للبعض، وإقامات للبعض الآخر أو تسفيرهم للسودان مكرمين مجنبهم عمليات الترحيل الإجباري، بل ومشهود له تضحياته في هذا الخصوص، وهو يعلم مخاطر إنهاء خدماته وإقامته، ولكنه لا يكترث لذلك طالما أنه يقدم خدمة إنسانية احتساباً لوجه الله. رحم الله الفقيد العزيز يس ميرغني وأجزل له من الثواب بقدر ما قدم من جلائل الأعمال خدمة لعياله سبحانه وتعالى، والذي أشهد خلقه عبر ذلكم الحشد الكبير الذي ودع الفقيد الى مثواه الأخير.