1 لم يدر بخلدي أن رحلتي الخاطفة الى الوطن التي تسبب فيها (مقاطيع طاري) عبثوا بمنزلي الذي هو كل ما أملك زهاء غربة طويلة بين خطوط الطول والعرض أن الله تعالى سيعوضني عن تلك الرحلة ومشاقها بأبرك منها.. حرارة الطقس المداري القاسي، وعذابات الكهرباء والماء عادة وإن كانت تؤلمني في وطن كوطني ورجال قادرين على التمام، فإنها قطعاً لا تشكل مجمل نظرتي الى الوطن الذي دائماً أراه ساطعاً وآتياً، وإن عز المسار وتكالبت عليه الصعاب تكالب الأكلة على القصعة.. إن من محاسن رحلتي التي تمت في منتصف ابريل إلى الاسبوع الأول من مايو هي احتفائي بميلاد نخل مثمر كثير رعيته عبر السنين، وأراه الآن يلبس عناقيد (الدفيق) التي يا طالما تغنى بحسنها عاشقون، ومن ذلك أيضاً عناقيد المانجو يحمر خدها لعشاقها، ومن ذلك أيضاً الليمون الذي قالت عنه عائشة الفلاتية أن سقايته عليها... مشاهد كثيرة لم أرها منذ عقود في دورة الزمن العارم وليس لديَّ عزيزي القاريء سوى هذا الحنين الذي سمح لي أحبتي في آخر لحظة أن أسكبه من حين لآخر.. نظل أوفياء لآخر لحظة لهذا المنبر تطوف حولنا روح أبي وضاح، وبركات السادة العجيمية، وحميمية الوصل مع أحباب كُثر هنا، يرفدوننا بالتمر الخاص والحب المخصص والود الصادق... الريس الهمام عبدالعظيم، وعلي فقير، ومامون العجيمي، وعطور، ونازك، والولي، وغيرهم.. ولئن جاز تكسير التلج في طقسنا المداري القاسي لذة للشاربين، فإنه ينتفي تماماً في العلاقة مع هؤلاء الرائعين فلا نملك ولا يملكون إلا صدق الوفاء وعميق الصلات. 2 أحتاج إلى مداد كثير لأسطر شيئاً عن رحلتي الأخيرة وأراها هنا كبِرك رمل الشاطيء تنتج ماء عذباً كلما أمعنت فيها الحفر.. لقد كان الليل بين النيلين حالماً وآسراً من مظاهره تعدد منابر الشجن.. الناس كلفون بأغنيات الحقيبة كجزء من ماضٍ جميل أرى أن في استحضاره خيراً لبقاء القيم الجميلة التي يا طالما ضمخت افقنا الفني والاجتماعي.. يا سلام أيها الوطن ....النجوم..!! من وصالك أسهل قلبي بى ذكركم تأهل وشوقي كاد منه عقلي يذهل والدموع من عيوني تبهل ما أظن بالعلي تجهل في الخيال أحيا لو تراني والنجوم من وصالك أسهل يسكب الرائع أبو صلاح هنا جزءاً من عناقيد هجر طال وتسلسل فمن عهده ومن عهد سرور وزنقار وكرومة الى عهد المغني الرائع مرزوق وياسر تمتام وعاصم، تظل عناقيد الشوق متسلسلة ودنان العاشق فارغة وركنه مزلزل.. وقدر العشاق هنا أن تعيش العاصمة حالة فنية فريدة أراها استثنائية بين مدن وحواضر العالم. وهناك ميلاد بروق جديدة لتدشينات الكتب، فالأحبار أيضاً تسيل كدموع العاشقين، وعرق الساعين نهاراً تحت ضربات الشمس الحارقة، بحثاً عن لقمة العيش ومن يحملون معاول الحصاد هنالك في البنادر البعيدة تأكيداً لرسالة الإنسان في الأرض وتفعيلاً للأمانة التي حملها وأبت حملها الجبال.. صباحات يا طالما افتقدتها والمؤذنون يوصلون أسباب الأرض بأسباب السماء فمن المايكرفونات تنبع أصوات المؤذنين بأنوار ربانية كمجاري من جنان رضوانية، تسعى بالناس الى المساجد في رونق الصبح البديع لهذه الغادة النيلية، وهي ترخي جدائلها العذبة عند ملتقى النيلين محتنية بطين النيل الخصب ومستدعية الى بلاطها العذري النسيم العابر والتماع النجم البعيد!! وتغزل القمر وهمس الضفاف 3 كحبيبة الرائع أبو صلاح، بدا لي أن الوصل بالقرية أقرب من النجم منذ أن رافقتني متلازمة أسميها منذ سنين (متلازمة الخرطوم) Khartoum syndromeوهي ظاهرة ظلت تأكل عافيتي ووقتي في تفاصيل لا نهائية ظللت أحاول فيها استخلاص أرض زراعية هوائية من فك دولة باعتها لي منذ عقود ظللت فيها ممسكاً بالوهم وبالورق وبالأمل في عباد الله المسؤولين من ولاة ووزراء زراعة قلوبهم كالحجارة أو أقسى.. لا يهم، المهم أن تلك المتلازمة فارقتني هذه المرة على استحياء إذ قررت ترك كل شيء والإبحار شمالاً حيث ترقد جامعة ناشئة ولدت عملاقة... جامعة الحمد بمروي زائراً ومتحدثاً ومن ثم (زايغا) في رحلة لسويعات لقريتي بالأركي –التي تعني في اللغة النوبية القديمة الخصوبة أو ربما الأرض الخصبة.. لقد بيَّنت لي معضلة الأرض التي اشتريتها من مالي الشحيح أن انتاج حبة طماطم أو إخراج فروج الى دورة الحياة في وطنني الذي يعد الناس باللبن والسنابل واللحم يحتاج الى أكثر من ثلاثة عقود، ليجري فيه دجاج يلقط الحب ويجري وهو فرحان، كأن عيونه خرز له في الشمس ألوان... وتلك قصة أخرى لا أريد أن أفسد بها مزاج هذا المقال أو مزاج القارئ. لقد أبنت بعض الخواطر عن تلك الجامعة التي ترقد بين خاصرتي النيل والصحراء كحلم آسر. في السفرة شمالاً، كنت في صحبة خيرين... ابن العالم الناشر صهيب ميرغني البدوي رجل البركل وصانع دهشة منتجعه الرفيع والأستاذة فتحية محمد الحسن المهمومة بنماء المنطقة وازدهارها وخيرين، كان المشهد رائعاً على مقصورة نوفا للطيران ويالها من نصف ساعة تحس فيها أن الغمام يحيي مقدمك وأنك تمتلك وطناً مدهشاً ليس الانجاز ببعيد عنه إذا ما صلحت النوايا والتأم الشمل. على مقربة من جبل التاريخ وما يخفي تحته من كنوز الحضارة، تحس بأن الدنيا كلها يمكن أن تأتي إلى هذا الوطن الآسر وتلك حقيقة يعيها صهيب وأمثاله ممن يسعون إلى أن تكون السياحة في وطننا واقعاً معاشاً.. من هناك ومن على السفح العظيم لجبل التاريخ، ينتظم المشهد الآسر غابات البركاوي والقنديل في إلفة مزمنة مع الأرض والنيل.. في بستان يوسف اسماعيل، تتحول الأغاني إلى واقع إذ تتجاور ثمار المانجو مع السبايط وتترافق الظلال وتتسامر الينابيع.. إن تلك اللوحة المدهشة هي عناق بين حلم ممكن ووعد ليس مستحيلاً فها نحن هنا وبعد أن كنا نسمع من بعيد حنين اللواري وهي تجاهد لفك أسار عجلاتها الضخمة من تلال الرمال العاتية، فنحن الآن على خط مسفلت يحتاج دوماً للرعاية والصيانة إلى حيث تتمدد قرانا شمالاً على الضفتين كما يتمدد لحن عذب مع أغنية شجية.. تحس أن سيل التأملات يستيقظ فاتحاً بسرعة ذلك المسير صفحات السنين بشجو يهطل هطولاً . بعد برهة، أطل كلنكانكول وأطلت معه قبة السيد محمد علي العجيمي، وأطلت بذلك ذكريات لن يطمرها النسيان. تقف في ضريحه داخل تلك القبة الموحية التي تضم قبر سيد العارفين شيخنا نور الدائم وأبناءه المجاورين قريب الله، وزين العابدين، وشيخنا عبد الباقي طيب الله ثراهم.. ما أقصر الجسر بين الموت والحياة هنا عندما تحس بأن هؤلاء السادة أحياء يرزقون لأنهم قربوا مسافات الناس بين السماء والأرض. تسابق الزمن لتدخل قريتك قبل المغيب ليمنحك الزمن فرصة ساعتين بعد انقطاع زاد عن ثلاثة عقود.. ولذلك الحدث خواطر أخرى فقد تمرغت شجنا في رمل البلد وعدت وثيابي لا تفوح منها رائحة البعد بين الموانيء والمطارات.