سلام فوجئت وأغلب زملائي طلاب مدرسة الجيلي الثانوية، ونحن ندلف للمرحلة الثانوية في يوليو1978م ، وكنا قادمين من كل أصقاع السودان الشاسع الممتد في ذلك الزمان، فوجئنا بأن من يدرسنا مادة اللغة الانجليزية هو مستر(ايدن) بريطاني الجنسية في العشرينات من عمره ، كان شابا وسيما ومهذبا ومتواضعا، واستمر تدفق المعلمين الإنجليز طوال الأعوام الثلاث التي قضيتها وزملائي بمدرسة الجيلي القومية(التي خرجت كثير من الأفذاذ وقادة المجتمع ونجومه اليوم). لم يكن مجي ( الخواجات) صدفة ، بل كان مدروسا من قبل بلادهم لغرس علاقات طيبة بين الشعوب ، واستمرار التعامل مع الدول التي كانت من مستعمراتها، ويحمد للبريطانيين أنهم بعد أن تركوا لنا دولة حديثة وأعظم خدمة مدنية في أفريقيا والعالم العربي(دمرها لاحقا من يتحمل وزرنا إلى يوم الدين) يحمد لهم بعد كل هذا أنهم ظلوا يقدمون المواطن السوداني على كثير من شعوب المستعمرات الأخرى ، وكان السوداني إذا وصل لبريطانيا زائرا(يوم كنا أهل ثقة والتأشيرة سااااهلة) يمر عبر (القرين لاين) لاتفتيش ولايحزنون. مرت الذكريات راااائعة أمام ناظري وأنا أشاهد نهارأمس في حلقة تلفزيونية مع عديل المدارس السفير البريطاني(..)وهو يحمل الفراشة ويطلي جدران مدرسة الدامر الثانوية ، يعاونة شباب من خيرة أهل هذا الوطن العزيز ( طارق الأمين يقود مجموعته عديل المدارس)، جلست مذهولا فبعد أن تعودنا على هؤلاء الشباب ، الذين يحملون الوطن في حدقات العيون، وظللنا نتابعهم من مدينة لمدينة لقرية ، يجوبون الأمصار يرممون جدران المدارس ويطلونها بجديد الطلاء الممزوج حبا ووطنية. بعد أن تعودنا عليهم لأنها بلادهم ، ولأنهم يردون الدين لوطنهم ، لم تكن الدهشة لفعلهم الذي بات نشاهده صباح مساء، ولكن الدهشة كانت لهذا الرجل الإنسان ، سفير بريطانيا العظمي – الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس- ممثل حكومة جلالة الملكة اليزابيث الثانية، بنفسه في دامرالمجذوب؟، وتساءلت هل للجوهرة البريطانية الغالية زوجة البروفسور عبدالله الطيب دور في هذا ، وهل هو لأجلها ، كانت الإجابة مزلزلة كلا ولكن سعادة السفير كان مدرسا للغة الإنجليزية مطلع ثمانينيات القرن الماضي في مدرسة الدامرالثانوية، يوم كانت المدارس الثانوية تخرج رجالا ناضجين يمكن الإعتماد عليهم مباشرة في كل مناحي الحياة ( الله يجازي الكان السبب في دمارها) . زالت الدهشة لأن المعلم في أي زمان ومكان هو شعلة تضيء الطريق للآخرين ، ولما كان سعادة السفير المهذب الراقي (وذلك يدل على أنه من أسرة كريمة علمت وربت) لما كان معلما فإن ذلك منه متوقع ، فالمعلم خلق لإسعاد الآخرين وتقديم العون لهم ليصبحوا أفضل منه(لن تجد في العالم شخصا يتمنى أن تكون أفضل منه إلا والديك ومعلمك)،ولكن الفضل الأكبرله أنه يعمل هذا العمل الرائع في بلاد ليست بلاده( وإن كنت مقتنع أن المعلم كل البلاد أوطانه). سعادة السفير زار المدرسة ووجد أننا اهل الوطن قد أهملناها كما أهملنا كثير من أشيائنا، وقرر أن يلبس ثياب المعلم كما كان ، وشارك بماله ويده في صيانة وترميم المدرسة، فماذا فعل أولئك الذين درسوا فيها ، ثم درسوا في جامعات الوطن الممتد مجانا، نهلوا من خيره : علما ، طعاما ، شرابا، ثم وظيفة وشهرة ومالا، أين هم ؟ أين المسؤول ابن البلد ، وهذا المسؤول الضيف قد جاءكم يعلمكم أمور دنياكم وكيف يجب أن تكون الأمانة. والله خجلت ليكم .. .شكرا سعادة السفير ، شكرا شعوب بريطانيا العظمى فلقد منحتمونا كرة القدم التي نفرج بها همومنا والقطار الذي نتقل به في أوطاننا وهاأنتم تقدمون لنا رجلا يحمل الإنسانية عملا وإبداعا متعه الله بالصحة والعافية. اللهم فرج كرب هذه الأمة ... اللهم آمين