بتعيين الشرتاي جعفر عبدالحكم رئيساً للسلطة الانتقالية بدارفور وحل الأجهزة التي كانت قائمة في السلطة، انقطعت آخر شعرة تجمع مني أركو مناوي كبير مساعدي الرئيس السابق بالمؤتمر الوطني، وأضحى الطرفان الوطني وحركة تحرير السودان برئاسة مني أركو، في حل من اتفاق أبوجا الذي وقعته الحكومة مع مناوي ولم يحقق السلام أو يطفيء نيران الحرب، بل زادت اشتعالاً.. فما هي دواعي التصعيد المفاجيء في علاقة مناوي بالمؤتمر الوطني بعد الانتخابات؟.. ولماذا لجأت القيادات الدارفورية لجنوب السودان والاحتماء بصدر الجيش الشعبي والتدبير والتخطيط لنقل مسرح وميدان الحرب من صحراء دارفور لغابات الحزام الممتد من أم دافوق غرباً حتى جودة شرقاً بالنيل الأبيض؟ ولماذا (تعجلت) الحكومة في (دفن) اتفاقية أبوجا والبحث عن اتفاقية أخرى في الدوحة؟ مناوي وصناعة الأزمة لا تخضع الحروب والتمردات للقوانين الطبيعية.. ولا يصعد من يقودون حرب العصابات والتمرد في وجه الدولة بالشهادات الأكاديمية ولا الدورات العسكرية، وتخضع قيادة حرب العصابات لمواصفات القائد وتكوينه الخاص والعصبة التي تحمي ظهره وتسنده، وفي عتمة العلاقة بين دارفور والمركز نهضت حركات التمرد في دارفور تقودها أسماء مبنية على المجهول مثل (عبدالله أبكر) ومني أركو مناوي وسليمان ضحية وعشرات الأسماء الجديدة التي تعتمد على ماسورة البندقية التي تحملها، وسبق وفي سرعة متناهية، أن أضحى مني أركو مناوي أشهر قادة التمرد الجديد في دارفور، استقبل كقيادة جديدة في العواصم العربية والغربية والأفريقية، ووقعت الحكومة مع مناوي اتفاق أبوجا لثلاثة أسباب.. أولاً: كانت حركة مناوي أكبر حركة متمردة في دارفور تملك أكبر عدد من المقاتلين.. ثانياً: لا ترتبط الحركة بأيدلوجية إسلامية مثل حركة العدل والمساواة ولا أيدلوجية يسارية مثل جناح عبدالواحد محمد نور.. ثالثاً: للضغوط التي تعرضت لها الخرطوم من قبل الولاياتالمتحدة بأن لا تفسد كتابها الجديد ناصع البياض بعد اتفاق نيفاشا بخوض حرب غير مرغوب فيها من قبل الغرب، وقبل أن يعين مناوي كبيراً لمساعدي الرئيس في القصر الجمهوري أخذ بعض القادة العسكريين يتسربون من بين يديه كما يتسرب ماء الوضوء بين الأصابع، ويعود ذلك إلى طبيعة (القوات) أو المليشيات الدارفورية التي تعتبر السلام مشروعاً يتعارض مع مصالحها بعد أن هيأت حركات التمرد المناخ للنهابين والعصابات التي تمارس قطع الطرق أن ينهبوا المصارف ويستبيحوا حرمة المدن الكبرى والأسواق! ونشب خلاف بين أركو مناوي ومفوضية الترتيبات الأمنية والعسكرية التي بدأت في تنفيذ ودمج قوات الحركات المسلحة في الجيش والشرطة، بيد أن مناوي تلقى نصائح من الحركة الشعبية (الجنوبية) بالنكوص عن اتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية والاحتفاظ بقواته العسكرية تحسباً للطواريء ونوائب الزمان، ولأن الحركة الشعبية قد اتخذت في تلك الحقبة قراراً تاريخياً (سكتت) عنه بالانقلاب على الشعارات الوحدوية والانكفاء على الذات لفصل الجنوب عن الشمال، والبحث عن أصدقاء في الشمال تضعهم الحركة في مواجهة الشمال.. واختارت من بين الحلفاء والأصدقاء مني أركو مناوي. الانتخابات والشعرة الأخيرة بعد رفض مناوي دمج قواته في الجيش أعلن قيام الانتخابات.. واشترطت مفوضية الانتخابات على الأحزاب والمليشيات المسلحة إشهار شهادة براءة من مفوضية الدمج وإعادة التسريح والتخلي عن المظهر العسكري كشرط لدخول الانتخابات، ولم (تطبق) المفوضية هذا الشرط على الحركة الشعبية التي أكلت قطعة الخبز واحتفظت بها في نفس الوقت، وانتهت نتائج الانتخابات بقذف مني أركو مناوي بعيداً عن الساحة التنفيذية، واشترطت الحكومة أيضاً إعادة تعيينه في موقعه ككبير لمساعدي الرئيس بدمج قواته وتسريحها لتبدأ هجرة قيادات الحركات المسلحة الدارفورية جنوباً نحو جوبا، والارتماء في أحضان الجنوب.. ونقل مليشيات تلك الحركات من صحراء دارفور لغابات الجنوب.. وانضم والي غرب دارفور السابق أبو القاسم إمام لمناوي وجمعت المصائب مصابي الانتخابات. ولم تبدِ الحكومة اهتماماً بخطورة تنامي العلاقة بين متمردي دارفور والحركة الشعبية في الجنوب والرحلات الماكوكية بين جوباوالخرطوم لبعض قادة دارفور من العسكرين لإحياء فكرة داؤد يحيى بولاد وعبدالعزيز آدم الحلو، ونسجت الولاياتالمتحدةالأمريكية من خلال ضباط مخابراتها علاقات بين حكومة الجنوب التي لم يتبقَ للاعتراف بها كدولة أفريقية جديدة إلا شهر وثلاثة أيام من الآن.. لكن الذين يجيدون صناعة الأعداء للإنقاذ من داخلها يسفهون فكرة جعل مني أركو مناوي صديقاً للمؤتمر الوطني ويفضلونه عدواً جديداً يضاف لأعداء المؤتمر الوطني الذي يفاوض في الدوحة د. التجاني سيسي الذي لا يملك جندياً واحداً في الميدان، ويهمل مني أركو مناوي الذي يملك قوة عسكرية مهما تعرضت للتصدعات والانقسامات والانشقاقات تبقى هي القوى العسكرية الأولى في دارفور ومن بعدها حركة العدل والمساواة.. ومن ثم المليشيات القبلية التي تنهب وتقتل وتختطف الأجانب. التمرد الجديد يتجه مني أركو مناوي لقيادة تمرد جديد ينطلق هذه المرة من جنوب السودان الذي توجد به أعداد كبيرة من الجنود والضباط الشماليين القادمين من جبال النوبة.. وقليل من النيل الأزرق.. وبعض الذين التحقوا بالحركة الشعبية والجيش الشعبي بعد التوقيع على اتفاقية السلام بحثاً عن قطف ثمار زرع لم يساهموا فيه بمثقال حبة من خردل.. وهؤلاء خليط من قبائل الشمال التي قاتلت الحركة الشعبية، جمعتهم الحركة الشعبية في هجيليج والخيرسان، ونجد سبعة عشر ألفاً من أبناء النوبة حسب تقديرات بعض قيادات الحركة، كل هؤلاء ينتظرون قطاراً جديداً يركبونه ولن تدعهم حكومة الجنوب التي ستصبح بعد أيام معدودة دولة الجنوب، لن تدعهم يعودون طوعاً مثلماً عاد الجنوبيون من أحياء زقلونا وأمبدة والكلاكلة و(ارفع صدرك) ومدني وبورتسودان.. لوطنهم الأصلي في أشهر رحلة عودة.. ولم تفكر قيادات المؤتمر الوطني بعد في استيعاب الشماليين وينظرون إليهم بعين السخط التي تبدي المساويء، وتدفعهم حكومة الجنوب وتصرفات الحكومة الاتحادية للاتحاد مع مناوي وأبوالقاسم إمام وغيرهما من القيادات.. وتوجيه آلاف البنادق لصدر حكومة الشمال وحكومة الجنوب التي وقعت الأسبوع الماضي اتفاق ترتيبات أمنية وعسكرية في الساعة الثانية ظهراً.. ووقعت في الساعة الرابعة عصر نفس اليوم على قرار طرد طلاب الدورة المدرسية من بحر الغزال إلى الخرطوم بدعاوى لا تجد من يعزز صدقيتها! من المستفيد من إجهاض اتفاقية أبوجا؟.. وهل وجود الشرتاي الحكيم جعفر عبدالحكم في رئاسة السلطة الانتقالية لأغراض التصفية النهائية ورفع التقرير النهائي للجنرال محمد أحمد الدابي؟.. أم لإنعاش الروح في الموتى وبث الحياة في عظام أضحت رميماً؟