كنت صبياً في الثانية عشر من عمري، حين ناداني الأستاذ الجليل تاج السر عبدالغني الخليفة محمد بابكر، وأنا أمر أمام مكتب المعلمين في مدرسة شمبات الإبتدائية الغربية، ( البراء بن مالك الحالية) في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قال لي الأستاذ دون مقدمات : حيدر ...أوع تبقى معلم في يوم من الأيام، قلت حاضر وجريت ، لا أعلم لماذا قال لي ذلك ولم أسأله ولم أفكر فيها أصلا. لم أفكر أن أكون معلما بل كانت أمنيتي أن أصبح ضابطا في الجيش ووتقدمت للالتحاق بالكلية الحربية عام1983م وكنت ضمن الدفعة (33) وزاملت قلندر وعصام مصطفي وأكرم (رحمه الله) فلقد ظللنا لشهور في معاينات ، لانها كانت أول دفعة أكاديمية تدرس 3 سنوات بجامعه الخرطوم تزامنا الدراسة العسكرية فالكلية ، اجتزتها كلها بحمدالله ، ولكن بعد الكشف الطبي وقبل نظرة القائد العام والذي كان النميري نفسه خرجت ، وتلك قصة أخرى قد يأتي زمان روايتها. المهم في الأمر أنني قدمت لدراسة القانون في سوريا وجاءت الموافقة من جامعه دمشق ولكن قلت أحسن أشتغل حتى مواعيد الجامعة...ذهبت لمكتب التعليم للمرحلة المتوسطة في محلية بحري الحالية(مكاتب الصحة) وقدمت أوراقي ، فقابلني ابن خالتي ومعلمنا المرحوم محمد أحمد النور ، فقلت له انا (عايز اشتغل ستة أشهر فقط) ، ضحك وقال لي أنا (قبل ما يلدوك قلت عايز اشتغل ست شهور لحدي الآن ماتمت) لن تترك هذه المهنة إن عملت بها ،وقد كان. بعد سنوات وفي عام 1991م كنت معلما في اليمن، وبينما أزور الجالية السودانية في صنعاء ، وجدت نفسي أمام أستاذي تاج السر وقبل أن يمد يده مصافحا سألني مستنكرا : أوع تكون بقيت معلم؟، أجبته بهزة من رأسي وبعد السلام وتقديم الإحترام له، سألته لماذا قلت ذلك التحذير في ذلك الزمان البعيد؟ قال لي : كنت أرى فيك نبوغا استخسرته على التعليم ، لأنه لا بواكي له. الآن وبعد أن عملت معلما ل 33 عاما أجد نفسي ، لا أستطيع أن أواصل العمل في هذه المهنة التي تشربت أرواحنا منها. أصبحت مهنة طاردة بمعنى الكلمة ، لا أود اليوم أن أخوض في الأسباب القديمة التى كنا نتحملها ، أو الجديدة التي ظهرت مع قيادات جديدة،ولل يمكنني تحملها، ولكن فكرت جادا في التنكب عن الطريق ، وأنا في كامل قواي العقلية والحمدلله. بالأمس كتبت علي صفحتي ب(الفيس بوك ) وجدت وظيفة وسأترك التعليم ، برغم أن الموضوع كان في إطار آخر ، إلا أنني استمتعت جدا بالمداخلات ، وجدت كلمات وإشادات لم أسمع مثلها من قبل، ففي وطني نحن لانشكر إلا الموتى، علق أعزاء مؤكدين على أهمية الصبر فشكراُ لأستاذنا عصام الدين خالد المساعد الإداري للتعليم الأساس ببحري وشكرا للمقدم (م) مبارك أحمدعلي ، والأعزاء هاشم خالد والأستاذ حيدرمحمد من سنار، والأستاذة الفضلي هيام أحمد إسماعيل وأبوبكر عثمان الشامي الذي علق قائلا (:ده نعي أليييييم) وعكسهم وجدت داعمين لي يريدون لي أن تتغير حياتي إلى الأفضل بعد أن طفح الكيل كأختي رجاء والأستاذة فاطمة محي الدين، والعزيز سالم هاشم الوجيه من اليمن وآخرون . هأنذا أحبائي بين نارين ...نار البقاء في مهنة أحببتها بكل جوارحي ، ولكنها فقدت مقومات كثيرة ، فالمهنة وخاصة التعليم إن لم تكن مشوقة والعمل فيها دافعه العشق والراحة النفسية ، وتتوفر معينات الإبداع فيه، فلا يمكن ممارستها. لي آمال في الله كبيرة ...ودعواتي في هذا الشهر الكريم ..أن يعيد لهذا الوطن تعليمه وصحته وأمنه ، وأن تعود للخدمة المدنية عزتها ويعود الرجل المناسب في المكان المناسب ، ليعود السودان الوطن المعلم الرائد قائداً للدول التي حوله ......اللهم آمين ......