ارتفاع سعر الدولار في مقابل الجنيه السوداني ظل في تصاعد مستمر لأكثر من عام، رغم الإجراءات والتدابير التي يتخذها بنك السودان من وقت لآخر للحيلولة دون فقدان العملة الوطنية لقيمتها بصورة كبيرة، ولكن مع ذلك أصبح الجنيه السوداني «مُعوَّماً» في محيط الدولار الأمريكي، فارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية بصورة جنونية وصارت الحياة أكثر تعقيداً، فمحدودو الدخل الذين يشكلون غالبية المواطنين أصبحوا عاجزين عن توفير احتياجاتهم الأساسية بسبب موجة الغلاء الحالية، فيما يشتكي أصحاب الصناعات والمستوردون والصرافات من صعوبات الحصول على الدولار الأمريكي من البنوك المحلية وارتفاع أسعار الدولار في السوق الموازي.. الأمر الذي بات يهدد الصناعات الوطنية بالانهيار والخروج من الأسواق المحلية بصورة كاملة.التحقيق التالي يتناول ارتفاع أسعار الدولار وتأثيراتها على الحياة اليومية. سياسة بنك السودان: ميزانية عام 2011م التي أعدتها وزارة المالية والاقتصاد الوطني تشير إلى توقعات باستقرار أسعار الدولار في معدل لا يتجاوز (2.7) في مقابل الجنيه السوداني، ولكن مع اقتراب دخول الميزانية الجديدة حيز التنفيذ لا زالت أسعار الدولار في ارتفاع مستمر رغم الحوافز الأخيرة التي عرضها بنك السودان على تجار العملات الصعبة لشراء الدولار.. فسياسة شراء الدولار يبدو أنها زادت الأمور تعقيداً فارتفع سعر الدولار في السوق الموازي بصورة كبيرة، بعد أن بات تجار العملات يتحكمون في سعر الدولار، حيث يقولون إن عمليات بيع الدولار لبنك السودان الذي يفترض أن يوفر العملة للمواطنين عبر الصرافات والبنوك الوطنية، وفي نفس الوقت يوفرون العملات للمواطنين الراغبين في السفر والعلاج بالخارج، الأمر الذي يتوقع أن يخالف المؤشرات التي بنيت عليها ميزانية 2011م. هناك عدة أسئلة تحتاج لإجابات حول مستقبل سياسات الدولة النقدية تجاه الدولار الذي سعت الدولة إلى فك ارتباط الجنيه السوداني به، وتسعير الجنيه بعدة عملات أخرى كاليورو الأوربي واليوان الصيني.. ولكن ظلت سيطرة الدولار مستمرة حيث يقبل عليه المواطنون بصورة كبيرة، فهل محاولة الدولة للسيطرة على سوق العملات وراء ارتفاع أسعار الدولار؟! وهل محاولات بنك السودان شراء الدولار من الأسواق زاد المضاربات بأسعار الدولار؟! وأين احتياطي الدولة من العملات الصعبة.. فقضية ارتفاع الدولار تحتاج لمعالجات شاملة، فالصناعة الوطنية تعتمد على الدولار في استيراد المواد الخام ومعدات الصناعة وقطع الغيار، كما أن معظم المواد الاستهلاكية المستوردة من الخارج تتحكم فيها أسعار الدولار، ولذلك ارتفاع أسعار الدولار بات يشكل أكبر المخاطر التي يواجهها المواطنون بسبب ارتفاع تكاليف توفير الاحتياجات الضرورية اليومية كالغذاء والعلاج. تجارة الدولار: الصرافات وشركات التحويلات المالية التي انتشرت في السودان لتقديم خدمات تزويد المواطنين بالعملات الصعبة، أضحى العاملون فيها يعانون من البطالة بسبب ارتفاع أسعار الدولار وشحه في الأسواق وصعوبة الحصول عليه.. يقول أصحاب الصرافات وشركات التحويلات المالية: عدم الاستقرار السياسي وضبابية نتائج الاستفتاء المقرر لجنوب السودان في التاسع من يناير لعام 2011م أثار حالة من الهلع وسط أصحاب الأموال والأثرياء، ولذلك زاد الطلب للحصول على الدولار فيما هناك شح فيه بالأسواق، ولذلك ارتفعت أسعار صرف الدولار مقابل العملة الوطنية فأصبحت الصرافات بدون عمل، لأن الحوافز التي قدمها بنك السودان لشراء العملات من المواطنين جففت مصادر التحويلات التي تعتمد عليها الصرافات، فقبل بضعة أشهر كان سعر الدولار مستقراً في السوق الموازي، ولكن قرار بنك السودان شراء الدولار جعل السوق متذبذباً وزادت نسبة المضاربة في تجارة الدولار، فالسماسرة يستغلون طلب بنك السودان لشراء الدولار لرفع أسعاره في السوق الموازي، ولذلك في أن أسعار الدولار ستظل في تصاعد مستمر حتى انتهاء استفتاء جنوب السودان وإعلان نتائجه.. ولكن إذا ضخ بنك السودان كميات كبيرة من الدولارات في الأسواق سوف ينخفض سعر الدولار، فحالياً هناك فروع لبنوك محدودة وصرافات معينة مخصصة للتعامل بالنقد الأجنبي وغير مسموح لهذه الصرافات والبنوك ببيع أكثر من ألف دولار لأغراض السفر ناهيك عن الاستيراد الذي يحتاج لمبالغ كبيرة، حيث يلجأ المستوردون للأسواق للحصول على الدولار رغم ارتفاع سعره، فيما كان قبل الإجراءات التي اتخذها بنك السودان عند بداية 2010م كانت الصرافات تحصل على كل المبالغ المطلوبة، بعد ذلك تقلصت حصة الصرافات إلى مائة ألف دولار فقط. وتلك كانت نسبة ضئيلة، فأُتيحت الفرصة لتجار العملة للتحكم في أسعار الدولار الذي يحصلون عليه بطرق الالتفاف على القوانين. توقعات الأسواق: يقول الدكتور أبو القاسم محمد أبو النور أستاذ الاقتصاد بلكية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية جامعة الخرطوم: هناك زيادة كبيرة في الطلب على العملات الأجنبية من قبل المواطنين لأغراض الاستيراد والتخزين والسفر إلى الخارج، كما أن التوقعات الخاصة بنتائج استفتاء جنوب السودان العام المقبل أدت إلى حالة عدم استقرار في اقتصاد السودان الشمالي، بالإضافة إلى تأثيرات الأزمة المالية العالمية وعدم استقرار أسعار البترول بالأسواق العالمية، كما أن عدم زيادة كميات البترول الذي يصدره السودان في الآونة الأخيرة، والتوقعات التي صاحبت الانتخابات التي جرت في السودان في أبريل الماضي أدت لارتفاع أسعار الدولار أيضاً، فأسعار الدولار تعتمد على التوقعات بالأسواق والاستقرار السياسي. إقبال المواطنين على شراء الدولار بغرض تخزينه للمستقبل يؤثر على انخفاض قيمة العملة الوطنية وأسعارها في الأسواق المحلية الأمر الذي ينعكس على زيادة أسعار الواردات، فالتوقعات السلبية حول معدلات التضخم وزيادة الإنفاق على المشاريع التنموية المخطط لها تزيد أيضاً أسعار الدولار، ولذلك لابد من إجراءات نقدية للحيلولة دون ارتفاع أسعار الدولار بصورة كبيرة. فميزانية عام 2011م وضعت بناءً على توقعات تعمل على استقرار الدولار في سعر الصرف مقابل العملة الوطنية، رغم التوقعات غير الإيجابية للعام القادم المتمثلة في الاستفتاء المقرر لجنوب السودان، وعدم تراكم الرصيد النقدي، ولذلك لابد من تقليل الطلب على الدولار بالحد من استيراد الواردات غير الضرورية وترشيد الإنفاق الحكومي المرتبط بالسفر للخارج، ولكن فك ارتباط العملة الوطنية بالدولار لا يؤثر كثيراً لأن كل العملات الصعبة يتم تسعيرها بالدولار عالمياً، بينما عدم توفر الدولار بالأسواق والحصول عليه عن طريق الوسطاء يجعل السيولة خارج الجهاز المصرفي، وإذا حدث ذلك ستكون هناك مؤشرات سلبية يصعب ضبطها، ولكن حالة ارتفاع أسعار الدولار الحالية تعد استثنائية ويمكن معالجتها عن طريق الإجراءات، فاستقرار أسعار الدولار تتحقق بعد معرفة حقيقة الاستفتاء وواقع إنتاج البترول، ولكن إذا لم تنخفض أسعار الدولار سيكون هناك ارتفاع جنوني في أسعار المواد الاستهلاكية يؤثر بصورة كبيرة على ذوي الدخول المحدودة، كما سترتفع تكلفة الإنتاج المحلي وخصوصاً الصناعات الغذائية ولذلك لابد من معالجات تقوم بها الدولة لمساعدة الصناعات الوطنية في مواجهة مشاكل المنافسة الحادة بالأسواق الداخلية والخارجية. تعويم الجنية: يقول عادل ميرغني علي الأمين العام لاتحاد غرفة صناعات ولاية الخرطوم: عدم استقرار سعر الدولار أثّر بصورة كبيرة على الصناعات الوطنية، بسبب ارتفاع تكلفة استيراد المواد الخام والآليات وقطع الغيار التي تُسعر عالمياً بالدولار، فيما الدولة لا تدعم القطاع الصناعي رغم وجود مشروعات كالنفرة الخضراء، كما يتحمل القطاع الخاص ضرائب ورسوماً على كل مستويات الحكم في السودان، بينما التوجيه الذي قدمه علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية في افتتاحه المجلس التشريعي لولاية الخرطوم دعا فيه للاهتمام بالإنتاج وعدم فرض رسوم إضافية وتخفيض الرسوم الحالية، ولكن التوجيه لم يوضع حيز التنفيذ من قبل الجهات المختصة، ولذلك ظلت مشاكل القطاع الصناعي دون حلول، كما لابد من تنسيق الجهود بين الإنتاج الزراعي ومتطلبات الصناعة، فالعام الحالي شهد إنتاجية عالية من البصل، ولكن لا يوجد تسويق أو تصنيع وكذلك الأقطان. ويضيف عادل ميرغني: ارتفاع سعر الدولار جعل قيمة الجنيه الشرائية ضعيفة، ولذلك ارتفعت أسعار القمح محلياً، الأمر الذي أثّر على أداء المطاحن والأفران، فسياسة تعويم الجنيه ستضر بالصناعات الوطنية ولذلك على الدولة التدخل لدعم سعر الصرف، كما أن دخول البنك المركزي السوق لشراء الدولار فاقم قضية ارتفاع سعر الدولار، فالأسواق تحتاج لفتح مزيد من العملات الصعبة وليس شراء الكمية الموجودة بالأسواق وسحبها، فتوفير العملات الصعبة يأتي من زيادة الصادرات المتنوعة وترشيد الصرف على السلع غير الأساسية وفقاً لقرارات وزارة المالية والاقتصاد الوطني المعلنة، فالصناعة المحلية أصبحت تواجه منافسة حادة من الواردات الرخيصة التي تتمتع بحماية من بلدانها، فهناك أكثر من ألفي مصنع بولاية الخرطوم تواجه مخاطر الإغلاق بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج التي أدت إلى توقف(40%) منها بصورة كاملة وتشريد العاملين بها.