مدينة كوستي من أعرق المدن السودانية، وقد شاع بين أهلها منذ وقت قديم أن اسمها ينسب لمبشر مسيحي إغريقي هو الخواجة: (كوستانتينيوس بيبلوس)، وهو يعد أول من حط الرحال بهذا الموقع في العام 1909، وأقام له مسكناً دائماً به، بعد أن رآه أثناء رحلة له من الخرطوم إلى ملكال وبالعكس، ثم عاد بعد الرحلة من الخرطوم ليقيم فيها نهائياً وحيداً أول الأمر، ثم نزح من حوله بعض السكان من (حلة عباس) بالقرب من منطقة (الليَة) قرب كوبري كوستي الحديدي القديم، وقد اشتق الاسم من المقطع الأول لهذا الاسم الطويل، (كوستا) ووضع السكان المحليون بصمتهم في الاسم فحرفوا (كوستا) بالألف في آخرها إلى (كوستي) بالياء في آخرها. سوى أن صديقي أستاذ الآثار بالجامعات السودانية د. محمد الإدريسي، سليل أسرة الشيخ أحمد بن إدريس (شيخ مشايخ الختمية) -والذي له تخصص عميق ودراسات واسعة في آثار الفراعين النوبة- قد أنكر عليَ هذه الرواية عندما قدمتها له بوصفي أحد أبناء هذه المدينة، وروايته الخاصة هي أن (كوستي) مثلها مثل أسماء جميع المدن السودانية بما في ذلك مدن جنوب السودان ملكالجوبا وواو، كلمة ذات أصول كوشية نوبية، تحرفت من الكلمة النوبية القديمة: (كوستاه) وتعني الحبل الملتوي، لانحناء واضح للنيل الأبيض عند شواطيء مدينة كوستي، وقال لي إن ثمة علاقة بين كوستي بالسودان وكوستاريكا بأمريكا اللاتينية، وكوسطنطينة بالجزائر وكوسطنطينية بتركيا، ومدينة كوستي البرازيلية بالقرب من ساوبالو، وحدثني بإسهاب عن آثار نوبية كوشية وجدت في كل هذه المناطق وهو يعرف تفاصيلها بدقة. أياً كان أصل التسمية فإن مدينة كوستي هي مدينة ذات بصمة خاصة، تربط الشمال بالجنوب والشمال بالغرب، فيتجمع فيها القادمون الذين تطيب لبعضهم الإقامة الدائمة بها، من كل الجهات في هذه البوتقة التي تنصهر في مرجلها القبلية، وتذوب في مجامرها الجهوية والمناطقية، فيصبح هواهم واحداً هو مدينة كوستي فقط، لا أنساب يومئذ ولا قبلية ولا جهوية، وقد كانت من أهم معالمها السكة الحديد والتي تعد المدينة مركزاً مهماً من مراكزها، والنقل النهري، حيث تنفرد كوستي بأن لها ميناءً نهرياً مهماً يربط الشمال بالجنوب.. وقد كانت تحتوي على نشاط تجاري كبير عماده سوق محاصيل كوستي، الذي كانت ترد إليه الحبوب الزيتية مثل الفول السوداني والسمسم، والحبوب الغذائية كالقمح والذرة والدخن، والكركدي والأمباز والأعلاف من كافة أنحاء غرب السودان، ويقام للمحاصيل مزاد كبير كل يوم يحدد بموجبه أسعارها لذلك اليوم، وهو ما قاد إلى نشاط صناعي مبكر للحبوب الزيتية والصابون، ومدابغ الجلود، بدأ بعصارات الزيوت التي تديرها الجمال لتنتج زيت السمسم، وزيت الفول السوداني، وزيت بذرة القطن، التي تحولت إلى مصانع بعد ذلك، كمصنع الأحمدين (أحمد كوكو وأحمد عبد القادر)، ومصنع أحمد المصطفى للزيوت والصابون، وقشارات الفول، وصوامع الغلال التي كانت تتجمع فيها الحبوب الغذائية كالقمح والذرة والدخن من كافة أنحاء غرب السودان. وأذكر أيضاً مصنع اللحوم الذي كان ينتج أرقى أنواع شرائح اللحوم الخالية من العظم (البوفتيك) معلبة في علب أنيقة بغرض التصدير، وكان هذا المصنع يشفي الذبيحة كاملة دون أن تدخل فيها يد الإنسان، إلا بإدخال الثيران إلى السير وإغلاق الأقفاص بعدها، ولم ألحظ اهتماماً للمواطنين المحليين بمنتجاته، بل كان هذا المصنع يجلب العملات الصعبة للبلاد، حيث تصدر لحومه لأوربا، حتى أن الميزان التجاري بيننا وبين أوربا كان يميل لصالح السودان بسبب منتجاته، وتجد لحومنا صفة تفضيلية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد وإيطاليا وأسبانيا، لاعترافهم بجودة اللحوم السودانية، إلى أن ثار عليه أنصار الهوس الديني محرمين أكل لحومه، لأن الآلة تقوم بالذبح وليس الإنسان، رغم أني كنت أرى بأم عيني أن من يشغلون آلة الذبح كانوا يكبرون قبل تشغيل الآلة، لكنهم تماحكوا وقالوا إن تكبيرة واحدة لا تجزي لذبح عشرين ثوراً دفعة واحدة، وانتصر هذا التيار للأسف، وألغي المصنع بحكم قضائي، وتشرد عمالة وموظفوه وأسرهم، وكانت أشلاؤه متناثرة حتى وقت قريب بعد أن تحول إلى أطلال، وهنالك مصنع للمياه الغازية يقدم مشروب الليمونادة، سينالكو، ودبل كولا ..ولعل من مراكز البرنامج النهاري لمعظم السكان، محطة السكة الحديد، نأتي إليها كل اثنين وخميس، لنودع المسافرين بقطار )الباخرة(، وهو قطار مخصص لنقل القادمين من باخرة جوباملكالكوستي، الذين يواصلون رحلتهم إلى الخرطوم، أو يكون اللقاء في مقهى بسوق الخضار في غير أيام القطار، ثم يكون التواصل عصراً بدار الرياضة –(استاد كوستي حالياً)- لقطاع كبير من عشاق الرياضة كلٌ يشجع فريقه المفضل، والعم دنقور وهاشم آل جعفر (أخبار) من أهم المعالم المميزة لدار الرياضة كوستي أيام قيادة الشيخ سيد أحمد وعلي بيِّن لإتحادنا المحلي، وقد كان فريق الأهلي كوستي هو معشوقنا الدائم ولا يزال، إذ أنه تأسس في حارتنا، وقام بتأسيسه في أوائل الستينيات الأعمام السر سالم، وأخوه حسن سالم، وعبد الرحمن بريقع، وعبد الله علي جن عليهم رحمة الله، وغيرهم كُثر نعتذر لمن لم نذكرهم، ومدربه هو مربي الأجيال الأستاذ أحمد ميرغني. ننتقل من دار الرياضة بعد نهاية المباراة، أما لنتفرج على التلفاز في نادي الأهلي، الذي يبدأ بثه عند السادسة، بقناة واحدة هي تلفزيون السودان القومي، حيث كان هذا التلفاز واحداً مما لا يزيد عن عشرة تلفزيونات في كوستي كلها، وبعد التاسعة نذهب للعشاء في دكان الزين الشهير بتحضير فول مصلح، يذهب بعده من يرغب لأهم المعالم وهي سينما كوستي الأهلية ليشاهد فيلم اليوم في عرضه الثاني، وكان مديرها في تلك الأيام (أبو التوم) ومهندسها الدائم الذي يجيد تشغيلها وصيانتها وتزييتها عمنا (ربيع) عليهما رحمة من الله ورضوان، وكانت هذه السينما هي أول فرصة أتيحت لنا للتلاقح الفكري مع ثقافة الداخل والثقافة الاقليمية والدولية، فمن جهاز البيك آب ضمن عدد محدود من هذه الأجهزة بالمدينة، كنا نتمتع بالاستماع إلى أغنية محببة للعم ربيع هي (قلت أرحل) للفنان محمد وردي قبل بداية العرض، كوجبة دائمة كل يوم، وعبر المجلة السينمائية قبل بداية العرض.. كنا نتعرف على أحدث الأنباء في العاصمة الخرطوم، وعبر هذه المجلة حفظنا وجوه زعاماتنا في ذلك الوقت أيام نميري، وينتظر الجميع بعد ذلك بشوق كبير العرض السينمائي سواء من عمالقة الشاشة المصرية، أو من بوليود مدينة السينما الهندية، أو هوليود مدينة السينما الأمريكية.. وقد كان للسينما دور أول من السادسة، ودور ثاني من التاسعة، وكان لها برنامج دوري معلوما للجميع، أذكر أن الأحد والخميس كان لأفلام الآكشن، وأن الإثنين والجمعة كانا للأفلام العربية، والثلاثاء والسبت للأفلام الهندية، والأربعاء لأفلام رعاة البقر، وكان ملصق فيلم اليوم الذي يظهر صورة كبيرة للبطل والبطلة، يحمل على عربة كارو صاحبها هو عمنا وجارنا عبد الجبار، ويطوف بأنحاء المدينة مع مذيع بمكرفون يذكر اسم الفيلم وأبطاله كترويج ودعاية للفيلم، ويستخدم كل يوم عبارة واحدة تبدأ بقوله: مع فيلم الإثارة والمتعة.. ويختمها بقوله: (إسكوب ألوان والترجمة على الشريط) أظن أن كلمة (إسكوب) تعني أنه يملأ الشاشة كلها، وقد شاهدنا عبر السينما أجمل الأفلام مثل) أريد حلاً) لسيدة الشاشة العربية، و(الأرض) والرصاصة ما زالت بجيبي) وأفلام هندية أبكت الجمهور بشدة هي (من أجل أبنائي) و(الفيل صديقي) و)أستاذي لك حبي( وروايات عالمية من هوليود مثل (ذهب مع الريح) و(أبكي يا بلدي الحبيبة) و(جين إير)، وغيرها.