لا يحتاج السودان إلى نهضة اقتصادية أو سياسية بقدر ما يحتاج إلى طفرة ثقافية أولاً، فأي تغيير في العالم لا تسبقه نهضة في الثقافة والفكر، كمن يحرك قدميه على آلة مشي رياضية معتقداً أنه يمشي مسافات، وهو باق في مكانه، نحتاج إلى همة ثقافية تغير الكثير من مفاهيمنا، إلى نهضة لفهم المعنى الحقيقي للمواطنة، والمعنى الحقيقي للديمقراطية والتعايش وفهم ثقافة الاختلاف واحترام الآخر والمعنى الحقيقي لعدم التميز بين إنسان وآخر ومعنى الوطن والانتماء إليه، وأيضاً معنى كيف نهذب السلوك العام، لأنه يساعد على رسم خارطة طريق لحياتنا إجمالاً، وتشكيل الطابع العام للإنسان، وهذا ما يميز الأمم عن غيرها، والثقافة ليست كلمة (نلوكها) ونتبادلها كمعنى أجوف في حياتنا اليومية وننسبها لأشخاص بعينهم، كما نقول مثلاً لمن يرتاد المنتديات (مثقف) وكل من حفظ لفظين وتفاصح بهم اجتماعياً نمنحه وسام الثقافة، هي ليست بهذا التنميط، بل فعل نمارسه بتراكمات معرفية مختلفة التصنيف، فعندما ظهر مفهوم الثقافة لأول مرة في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان يشير إلى الاستصلاح وتحسين مستوى الناس، وفي القرن التاسع عشر أشار بصورة واضحة إلى تعديل المهارات الفردية للإنسان كالتعليم والتربية والتنمية العقلية والروحية وهذه هي النقلة التي تحقق لنا الرخاء. وفي القرن التاسع عشر أشار للثقافة بقدرة الإنسان البشرية على مستوى العالم، ومؤخراً برز مصطلح الثقافة في علم الانثروبولوجيا، والذي يشمل كل الظواهر البشرية التي تتمثل في نبوغ الإنسان بإبداع خلاق وخبرات عالية في كل المجالات. ظلت الحركة الثقافية في السودان مهملة تماماً منذ سنين عدة، وازدادت تدهوراً في السنين الأخيرة لأن الحكومات لم تعرها اهتماماً قاصدة كانت أم متجاهلة، إلا أنها شهدت حراكاً ثقافياً أقرب لان يكون شكلياً من قِبل الأستاذ السموأل خلف الله وزير الثقافة السابق، والذي رفع وقتها شعار(الثقافة تقود الحياة)، فنحن أنجح شعوب الدنيا في ابتكار الشعارات الجاذبة والبراقة لفظاً وليس عملاً، إنه فعلاً شعار جميل ويحمل بين طياته معاني سامية، ولكن لن يستطيع أن يقود الحياة فقط بطباعة بعض الدواوين الشعرية، وليالي الخرطوم أو بورتسودان أو الجزيرة وغيرها من مهرجانات الولايات الغنائية، ولا تختزل الثقافة فقط في الغناء والموسيقى، وإن كنا في أمّس الحاجة لمثل هذه الفعاليات التي من صميم دور الثقافة وحُرِم الإنسان السوداني منها زمناً طويلاً، ولكن (علوق الشدّة ما بفيد في الحركة الثقافية)، نحن في أمّس الحاجة لبنية تحتية ثقافية جديدة شاملة يتم من خلالها وضع خطة إستراتيجية ثلاثينية أو أي سقف زمني مناسب نعمل فيه بجد واجتهاد لبناء جيل جديد، يعي ما يفعل لنرى فيه الشكل الثقافي للسودان بعد ربع قرن من الزمان الذي هان علينا، وتضم هذه الخطة كل التخصصات الحياتية، وكذلك أهمية إعطاء الشباب الفرصة الحقيقية والكاملة لتحريك الجمود الثقافي والفكري تحديداً داخل مؤسسات التعليم المختلفة، لأنها مؤسسات تربوية وثقافية وليست تعليمية أو تلقينية فقط، وهي التي تبني لنا من يقودون الحياة حتى نصل إلى مصاف الدول المتقدمة برقي سلوكنا، خصوصاً أننا نحاصَر باستعمار ثقافي عبر ثورة الاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أسأنا استخدامها وأصبحت مؤشراً خطراً على حياتنا.