صراع التصوف والفقه في عهد سلطنة سنار كان صراعاً مذهبياً في مظهره، وتاريخياً في جوهره، كان صراعاً للنخبة المنقسمة على نفسها في طرفين، كلاهما يتخذ من المقدس طقس عبور للكسب السياسي والمادي. كان كلا الطرفين معنياً بحصد المكاسب المادية والمعنوية وتوسيع دائرة النفوذ الجماهيري، وقد حقق الصوفية انتصاراً على الفقهاء في السودان، وفي كل المحيط العربي الإسلامي حينها، وكان التصوف كثقافة ومذهب وطرق بمثابة حزب أممي لا غنى لأي كيان سياسي عنه.. غير أن صراع التصوف والفقه في السودان تميز عن المحيط الاقليمي في تفرده الثقافي والعرقي واللغوي، وبإيقاعه المتسامح الناشئ من الاعتراف بالآخر داخل البيئة الهجين، حيث لم يكد صوت الحدة يعلو في ذلك الكيان خلال فترات الصراع الأولى، فاختبأ الصراع إلى درجة التماهي بفضل سيطرة الثقافة الصوفية على الحياة. والفرق بين التصوف والفقه في الثقافة السنارية كالفرق بين الماء واللبن..! جاء على لسان الشيخ حسن ود حسونة تقريعاً لأحد الفقهاء دوّنه ود ضيف الله هكذا: (قِرايتي المكسرة سيدي قبلها وقِرايتك المجودة ما قبلها ليك.. سيدي إن ملّح لي باللبن وليك بالموية شن حيلتك)؟ ..ذا القول الذي أورده صاحب الطبقات على لسان ود حسونة، هو نص بليغ في الدلالة على تمازج ثقافة التصوف والفقه وعدم استغناء أحدهما عن الآخر، فالماء أساس الحياة واللبن خير غذاء، ولا غنى للناس عن أحدهما، وقد سار الصراع على هذا النحو مثلاً في الناس، وترياقاً شذب التعصب القبلي والتنطع الفقهي والشطح الصوفي، وانعكس في الميدان الجماهيري العام وفي مجال السياسية، وأفرز أجواءً تغري باستثمار العاطفة الدينية سلباً وإيجاباً. وأخرج القادة من الرحم الصوفي في خروج أشبه بتوريث الزعامة على غرار العصبية العرقية، كما سنبين لاحقاً في الصراع على السجادة. ولما كانت قاعدة الثقافة السنارية هي تمازج الأعراق والثقافات، واختلاط التصوف بالفقه مع البيئة الاجتماعية، فإن الصراع داخل كل معسكر لا يرصد إلا بروح هذا التسامح، وبالنظر الى الصراع الذي جرى بين الشيخ أرباب العقائد وتلميذه الشيخ حمد ولد أم مريوم، نلاحظ أن ما حدث، كان خلافاً حول تفسير النص، قاد إلى مفاصلة بين الرجلين، قال الشيخ حمد:( كنت خادمه وملازمه) ذات يوم قلت له : ياسيدي هذا العلم الذي قرأناه مأمورين بامتثاله أم لا ؟ قال: مأمورين بامتثاله، فقلت له: خليل قال: وكره صلاة فاضل على بِدَعي أو مظهر كبيرة قال : نعم، قلت له : لِم تصل عليهم ؟ فترك ذلك وقتاً والناس ماهم رضيانين، قالوا له الناس جيرانك واقاربك تسمع كلام حمد المشاقق، فعاد كما كان فرحلت.. أنظر الطبقات، ص174. الشاهد هنا، أن التلميذ ركن إلى حرفية النص المالكي في كراهة صلاة الجنازة على مرتكب الكبيرة، أما شيخه فقد تجاوز قيود النص لضرورة اجتماعية تطلبت بإلحاح أن يجاري الشيخ الناس ويخاطبهم على قدر عقولهم، لأن لهذا التجاوز قيمة دينية ودعوية، في حين أن التمسك بحرفية النص قد تسلب إقبال الناس على المعرفة وتصدهم عن الأخذ بما يطيقون من تعاليم الدين. كان المطلوب تاريخياً، من الصوفية والفقهاء على حد سواء بث نذر الثقافة الدينية في رغائب الناس، ومجاراة أوهامهم وتدريجهم من تلك الحال بقدر الجهد والطاقة، وهذا ما اطمأن اليه الشيخ أرباب العقائد بعد الإيقان بالتجربة، بأنه حين يصلي على الميت- أي ميت- فإن لتلك الصلاة أثرها في الأحياء، إذ ليس عليه أن يحاسب الموتى بل له أن يذكر محاسنهم، وفي هذا يلتقي المطلب الاجتماعي بمقصد الدين، بتحييد الحرفية، وصولاً إلى جوهر النص والبحث عن الحكمة التي وراءه.