حرصنا دائماً ونحن نتناول مسألة الجنوب، أن ننطلق من مفهوم واحد أن الجنوب جزء لا يتجزأ من السودان الدولة القارة بكل أبعادها واتجاهاتها، وحرصنا أكثر أن نرسخ مفهوم الوحدة الموجودة أصلاً منذ أن عرف السودان كدولة منطوية للمنظومة العالمية.. وكنا نعتقد أن المستجدات التي نحسب أنها طارئة وستزول مثل سحابة صيف سرعان ما تبددها شمس الاستوائية، لكن ظهور بعض القيادات الجنوبية التي اعتلت الساحة السياسية الجنوبية خاصة بعد توقيع اتفاقية نيفاشا، أفسدت أجواء الود والتعايش السلمي بين الشماليين والجنوبيين، مستخدمين أجندة خارجية تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي بين الوطن الواحد، ولولا الحدث التاريخي- موت قائد الحركة د. جون قرنق- لما كان لأحد من هؤلاء الذين يملأون الأرض ضجيجاً، ويسعون لتدمير الوطن وخرابه.. الاستمرار في المناداة بالانفصال للرجوع بالجنوب الى المربع الأول ما قبل نيفاشا.. عدم وضوح الرؤية في العلاقة بين الشريكين أعطى هؤلاء فرصة للظهور على مسرح السياسة الجنوبية ليصبحوا أصواتاً نشازاً ويشعلوا الحرائق تلو الحرائق في طريق تنمية الجنوب والنهوض بإنسانه الذي عانى من ويلات القتال وفقدان الأهل والعشيرة والقبيلة بسبب حرب لا بقرة لهم فيها ولا جرعة لبن. الآن وبعد أن ضاعت من الجنوب خمس سنوات هي عمر نيفاشا التي أعطت لإنسانه حريته وأمنه، واتجه لمشروعات تنموية تشبع حاجاته لينعم بخدمات صحية وتعليمية ومعيشية ترضي طموحاته، وقع فريسة لمزاج بعض الساسة الذين تلاعبوا بمصيره وجعلوا أنفسهم أوصياء عليه، ليقرروا له كيف يكون مستقبله، هؤلاء نسميهم الآن الجنوبيون الجدد أو بالأصح أولاد الحركة المشاغبين الذين دأبوا على مدى خمس سنوات على نشر الأفكار المتطرفة ولم يراعوا توطيد العلاقة بين شريكي نيفاشا «المؤتمر الوطني والحركة الشعبية»، ولجأوا لدق الاسفين تلو الاسفين لخلق التوترات، بل الجنوح نحو المزايدة في الطلب لإضعاف المؤتمر الوطني.. ونتيجة لسلوكهم الشاذ حدثت بلبلة في أوساط الشارع السياسي، وظن رجل الشارع في الشمال والجنوب أن عدداً من سياسيي الحركة «معارضة»، وهم قيادات في النظام الحاكم ومتطرفون أكثر من قيادات ورموز المعارضة الحقيقية. ولعل المسرح السياسي في الفترة الأخيرة قبل وبعد الانتخابات العامة التي أجريت في أبريل الماضي، أدرك أن هؤلاء المتطرفين استخدموا لغة العناد والعصبية والمزايدات بدلاً من لغة الحوار والتفاهم التي من المفترض أن تسود بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني شريكي الحكم في البلاد. عموماً.. نقول إن الانفصاليين تطرفهم واتجاههم عكس الإجماع الوطني يسيرون في طريق مجهول سيؤدي الى كارثة لا محالة، وسيصبح الجنوبي غريباً في أرضه، حيث يجد أن كل من حوله نازحون من دول الجوار يتمتعون بخيراته، وتتأكد مقولة الانفصاليين إن المواطن الجنوبي مواطن من الدرجة الثانية، وهذه المرة ليس في الشمال، ولكن بين أهله وعشيرته وممتلكاته. الآن كل الدلائل والمؤشرات تفيد بأن حالة الجنوب مصابة بداء عدم الاستقرار والشعور بالخوف من المجهول، لذا فبماذا نفسر الاهتمام العالمي من دول بعينها بالاستفتاء والإصرار على أن يتم في موعده، في الوقت أن الاستفتاء وإجراءه شأن سوداني بحت يخص السودان وحده، فالاهتمام الأجنبي أثار الكثير من الشكوك بأن مشكلة جديدة سيخلقها الانفصال إذا أصر غلاة الانفصال على تقسيم وتمزيق السودان الى جزئين الشمال والجنوب، بعد أن ظل الاثنان تحت مظلة السودان الموحد. ما نخشاه أن تتسع دائرة التدخل الأجنبي في مسألة الاستفتاء خاصة بعد اهتمام عواصم مثل واشنطن ولندن وأوسلو بالاستفتاء.. السؤال هل هناك أجندة خفية تساند الانفصال وتدفع بورقة الانفصال إلى الأمام؟ وهل أدرك الانفصاليون أن النتائج ستكون وخيمة على المواطن الجنوبي المغلوب على أمره؟ ولتبقَ الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع في الداخل والخارج أن الحكومة مازالت تسعى وتبذل من الجهود ليظل السودان موحداً، وهذا أمر طبيعي وتفكير عقلاني، لكن عدداً من الساسة الجنوبيين وهم في مراكز القيادة العليا وحكومة الجنوب، يفكرون بطريقة غريبة ويتحدثون بلغة غير مفهومة، علاوة على أنهم تصدر عنهم تصريحات بمفردات غامضة ويظهرون خلاف ما يبطنون، فهل في مقدور هؤلاء إرجاع عقارب الساعة للوراء؟ إذا كان الأمر كذلك، فما جدوى ما جاء باتفاق نيفاشا.. وبعد كل ما حققته الاتفاقية من مكاسب، فهل يرضى المواطن الجنوبي أن يعود مرة أخرى للعيش في حالة من الرعب والخوف والمرض والفقر والنزوح والتشرد.. أم ماذا!.