* كان لدى أمهاتنا وجداتنا، ونحن صغار، قسماً مغلظاً يلجأن إليه كلما حزُب أمرٌ يستحق موقفاً حاسماً أو نفياً جازماً وصادقاً، فتحلف الواحده منهن أمام من هو أو هي في مواجهتها بقولها "وحاة نظري" أو "أعدم نظري" .. باعتبار ذلك هو أعز ما لديها فتضعه في ميزان اللّعان والدعوة بفقده إن لم تكن على حق. *تذكرت هذا القسم الغليظ للأمهات والجدات – رحمهن الله- وأنا بين يدي مُحضري العملية، استعداداً لاجرائها على عيني اليسرى بمستشفى مكة لطب العيون – يوم 20 أغسطس الماضي- وهي العملية التي تكررت بعد عشرة أيام على العين اليمنى، وكانت وراء انقطاعي عن قراء "الإضاءات" طوال الأسابيع الماضية.. فلهم العتبى والمعذرة ولإدارة "آخر لحظة" الشكر الجزيل. *نعمة النظر أو البصر، تأتي في سنام النعم التي حبا الله بها الإنسان، لأنها الحاسة "رقم واحد" بين الحواس الخمس المفضية للإدارك .. فإذا ما فقدها الإنسان أو أختلت وظيفتها يجد نفسه فجأة خارج شبكة الإدارك المباشر أو يكاد.. فينقطع عقله عن الاتصال الفوري بما هو حوله حتى يدرك الأشكال والألوان، ويمتد الأمر بالضرورة إلى تقييم الانطباعات التي تصدر عن وجوه مُحدثيه وأثرها على من هم حوله استحساناً، فرحاً، غضباً أو استخفافاً، بما يجعل حاسة السمع قاصرة عن توصيل ونقل الصورة الكاملة للموقف من حوله. *هذا يقودنا إلى أن الاضطراب الوظيفي أو الشكوى من البصر أو من أي من أعضاء الجسم يؤدي بالتداعي إلى اضطراب وخلل في أعضاء الجسم الأخرى، مما يدفعها للعمل كجسم متكامل أو (جبهة موحدة) للتغلب على علة ذلك العضو المصاب فتتداعى له "بالسهر والحمى" كما جاء في الأثر.. ومازالت علوم الطب الحديث تجتهد في تلمس ما يعرف ب "التداعيات" أو "المضاعفات" الي تترتب على الأعضاء السليمة جراء إصابة عضو آخر ليس على علاقة مباشرة بالكثير من الأعضاء المستجيبة والمتجاوبة مع تلك الاصابة كما يقول د. حسن صندقجي المستشار بمركز الأمير سلطان للقلب في العاصمة السعودية في مقال له بصحيفة "الشرق الأوسط" يوم الجمعة الماضي تحت عنوان " توازن الأسنان.. هل هو توازن للجسم كله؟"! *وبالفعل، أدركت حالة "التوازن" هذه وفقدانها، أثناء خضوعي لعملية العين اليسرى لإزالة "الكتراكت" ،أي الماء الأبيض، تحت يد الجراح القدير " مستر أمير" فبمجرد أن غاص بمشرطه الإليكتروني في قاع عيني لتفتيت الغشاوة وجذبها وتثبيت العدسة الصناعية بدل العدسة المعطوبة حتى أخذتني "خمة نفس" وضيق شديد في الرئتين لم أجد له تفسيراً.. فما صلة هذا الذي يجري في قاع عيني على يد الجراح بوظائف الرئة.. ما أضطر مستر أمير للتوقف عدة مرات وتقطير بنج موضعي إضافي لتخفيف إحساسي بالألم المصحوب بضيق التنفس.. وفور إنتهاء العملية التي استغرقت أقل من نصف ساعة، طلب مني معاونو التمريض النهوض، الذين وضعوا ضمادة على عيني، الذهاب لغرفة الملابس لأخذ متعلقاتي ومغادرة مجمّع الجراحة.. لكنني أعتذرت بأنني أشعر بإرهاق شديد وأود أن أرتاح قليلاً حتى أتمكن من السير "المتوازن" فأخذوني إلى سرير متحرك أو "نقالة" داخل المجمّع حيث تمددت لأكثر من نصف ساعة، استعدت خلالها توازني واستجمعت قواي لأنهض وأتحرك خارج المجمّع .. بينما كانت عملية العين اليمنى على العكس من ذلك في منتهى اليسر والسلاسة. *هذا دليل عملي على ما يقول به د. صندقجي عن "التوازن" فإذا كان اختلال توازن الأسنان يقود إلى فقدان توازن الجسم كله والسقوط.. فاختلال البصر/النظر أجدر بأن يفعل ويقود إلى هو ما أعظم وأفظع.. وهذا ما جعل أولئك السيدات الفضليات يقسمن بأغلظ الإيمان الذي ينال من نظرهن.. (وحاة نظري وأعدم نظري)!! .. بما يدلل على النباهة والفطرة السليمة التي تحليْن بها. (يتبع)