ربما «الخير في الشر انطوى» كما يقول الشاعر، والأذكياء في عالم السياسة هم الذين يصنعون من الأزمة «فُرصة»، وهذا ما أقدم عليه السيد مبارك الفاضل المهدي ورفاقه في حزب الأمة «الإصلاح والتجديد» باتخاذ قرار حاسم قبل أسبوع واحد من موعد الاستفتاء على تقرير المصير للجنوب، الذي يأتي بمثابة أزمة ماحقه وجائحة غير مسبوقة تفتك بكيان الوطن كله، شمالاً وجنوباً، وإذا ما كانت هناك لحظة واحدة تستحق أن يتسامى الجميع فوق مشكلاتهم وخلافاتهم وجراحاتهم ، فليس هناك أنسب من هذه اللحظة التي تعبرها البلاد لمثل هذا التسامي والجنوح نحو الوحدة والتكاتف والتدامج استعداداً لمواجهة الأخطار بقراءة متبصرة للمآلات المنتظرة، بعد أن تأكد للجميع أن الانشطار والانقسام هو «المصير» الذي ينتظر الوطن في التاسع من شهر يناير الشتوي هذا، وأن زمهرير الرياح الباردة سيلف الجميع، وليس من سبيل لنيل بعض الدفء سوى توحد الأجسام والتصاقها الحميم، مما يخفف وطأة القشعريرة وصكيك الأسنان والتباريح. فأمس فاجأ السيد مبارك المهدي رئيس حزب الأمة «الإصلاح والتجديد» الساحة السياسية السودانية بهذا القرار الذكي والشجاع، عندما أعلن في مؤتمره الصحفي عن حل حزبه وإدماجه في حزب الأمة القومي، من دون شروط، معللاً القرار «بزوال الخلاف بين الحزبين»، والأهم من ذلك فإن القرار يأتي كفعل إستراتيجي أملته، كما قال، الأوضاع السياسية الاستثنائية التي تشهدها البلاد، الداعية «لتجاوز الأطر التنظيمية» والتي تتطلب توحيد الجهود لمواجهة الظرف الدقيق الذي «يتهدد البلاد بالتشتت والتمزق والصوملة». وبرغم عنصر «المفاجأة» الذي انطوت عليه الخطوة، إلا أن مبارك المهدي ذكّر الجميع بما سبق من تحركات قادت في هذا الاتجاه، منها قرار الوحدة السياسية بين الحزبين الذي اتخذه المؤتمر العام الثالث ل«الإصلاح والتجديد» في التاسع من مايو 2009م، كما لم ينسَ السيد مبارك تذكير مستمعيه بأن الخط السياسي لحزب الأمة- المجمع عليه طبعاً- هو «مشروع الدولة المدنية» القائمة على المواطنة، والتي تأتي عبر «الوسائل السلمية للتحول الديمقراطي»، كما دعا إلى «نظام انتقالي» بغرض تصحيح أخطاء الماضي وطرح حلول لمشكلات الحاضر، رأى انها لن تتيسر إلا بتخلي حزب المؤتمر الوطني الحاكم عن نهجه الحالي- المتمثل في الانفراد بالسلطة ومقدَّرات الوطن- باعتبار ذلك النهج جزء من الأزمة التي تشهدها البلاد، والتي قادت في المرحلة الراهنة إلى خطر انشطار البلاد الوشيك وانقسامها إلى شمال وجنوب، بعد فشل طرفي نيفاشا في جعل الوحدة جاذبة أو ممكنة. سرني أن أقرأ في بيان «الإصلاح والتجديد» القاضي بالاندماج مع حزب الأمة القومي عبارات من مثل «سلامة الوطن فوق الأحزاب.. ووحدة كيان الأمة تعلو على الذات» وتذكيره للجميع بأن قرار الوحدة يأتي في الأول من يناير مع الذكرى الخامسة والخمسين لاستقلال السودان، والتذكير كذلك بتراث هذا الحزب العريق الضارب الجذور في تاريخ الاستقلال الوطني، منذ الثورة الوطنية الأولى بقيادة الإمام الأكبر محمد أحمد المهدي، والتي دفع فيها شعبنا المهح والأرواح، والتي قادت إلى إنشاء أول دولة وطنية متحررة بأيدي بنيها من الاستعمار، وألهمت شعوب القارة جميعها معاني الحرية والانعتاق، مثلما ذكرهم بكفاح الإمام عبد الرحمن راعي الحزب والجبهة الاستقلالية من أجل نيل الاستقلال في العصر الحديث. بيان الاندماج لم يتجاهل كذلك الانشقاقات الأخرى التي أصابت جسد الحزب الكبير، فأهاب بكل قيادات الحزب وكوادره التي ابتعدت عن الساحة وجمَّدت نشاطها، خصوصاً أعضاء «التيار العام» الذين اختلفوا على مخرجات المؤتمر العام السابع لحزب الأمة القومي، للحاق بركب الاندماج والتوحد بالنظر للظرف المفصلي والحَرِج الذي تمر به البلاد، والذي يتطلب من الجميع نكران الذات وتلبية نداء الوطن. أهمية الخطوة «المباركية» تكمن في أنها شكّلت نموذجاً لممارسة واعية ومسؤولة للفعل السياسي، تُقدِّم ما هو إستراتيجي على ما هو تكتيكي أو تنظيمي في مواجهة ظرف استثنائي - بكل معنى الكلمة- تشهده البلاد، ظرف هو حالة غير مسبوقة في تاريخ السودان المستقل، ف«تقرير المصير» لن يكون أثره محصوراً في ابتعاد الجنوب، كما يرى بعض ذوي النظر القصير، بل ستنداح آثاره وارتداداته لتشمل جميع أجزاء الوطن، آثار وارتدادات ستمتد إلى دارفور المائجة بالاضطرابات ، ووبمناطق «المشورة الشعبية» في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وإلى حركة الاقتصاد الوطني بمجملها، ونذر الأزمة التي بدأت تلوح في الأفق وتمد يدها إلى جيب المواطن، وإلى حالة الكساد التي تشهدها أسواق العملة الأجنبية ومترتباتها على القدرة على استيراد الضروريات المطلوبة للإنتاج الزراعي والصناعي، حتى لو استغنت الدولة عن سلع الكماليات والرفاه. هذه «الخطوة النموذج» مطلوبة ليس لحزب الأمة دون سواه، إنما يجب أن تمتد لكل القوى السياسية السودانية المهمة، وفي مقدمتها الحزب الكبير الآخر «الاتحادي الديمقراطي» الذي يعاني على مدى عقود من التشظي والانقسام الأميبي، وكذلك أحزاب البعث والقوميين العرب والناصريين والحزب الشيوعي والقوى الوطنية الديمقراطية، وحتى قوى الإسلام السياسي المستنيرة والراغبة في إقالة عثرة الوطن، كل هؤلاء في حاجة لاتخاذ خطوة مماثلة لتلك التي أقدم عليها الإصلاح والتجديد، استعداداً لتشكيل حائط صدٍ منيع في مواجهة الأخطار المحدقة بالوطن.. فهل من سميع وهل من مجيب؟!