خلصت في المقال السابق الى أن الحكمة والموضوعية تقتضي إزاء الوضع السياسي المتوتر الراهن أن تمدد آجال المؤسسات الدستورية القائمة وتأجيل الانتخابات العامة لحين توفر المناخ السياسي الملائم، أو التراضي على الاقتصار على انتخابات في مستوى رئاسة الجمهورية وولاة الولايات وإجراء التعديلات اللازمة في نصوص الإتفاقية أو الدستور لتحقيق ذلك والمساهمة الموضوعية في تجنيب البلاد المخاطر المحدقة والفوضى المتوقعة من القوى السياسية المفلسة والحركة الشعبية اليائسة من كسب سياسي ديمقراطي يضمن لها المحافظة على الوزن السياسي المكتسب بواسطة اتفاقية نيفاشا اذا جرت انتخابات شاملة بالبلاد. إن العلاقة المنطقية بين شريكي نيفاشا (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، ينبغي أن تقوم على ثقة متبادلة تفضي الى تحالف إستراتيجي قوي في كافة مراحل الحراك السياسي بما فيها الحملات الانتخابية في كافة المستويات ومختلف الأصعدة النقابية والفئوية والتعبير تجاه المواقف الدولية والإقليمية وبرامج الأداء التنفيذي وقطعيات بنود الاتفاق وأوليات الخطط الإستراتيجية والمرحلية ولكن... لقد ظل انعدام الثقة بين الشريكين والتربص المتبادل هو الأصل منذ بداية تطبيق الإتفاقية، التي يبدو أن غموض بعض بنودها التي تحمل أوجهاً كثيرة عند التنفيذ والصياغة الفضفاضة لبعض البنود جعلت الشريكين يضطران لتعقب تلك البنود بجلسات حوار متكررة لتفسير تلك المدلولات والخروج باتفاقيات تكتيكية مبعثرة سرعان ما تنهار مع بداية اصطدامها بالواقع العملي، الأمر الذي يذكر بمقولة الدكتور جون قرنق (إن الشيطان في التفاصيل). يتضح جلياً من خلال هذا الواقع القلق الذي تخيم عليه مظاهر انعدام الثقة كما أسلفنا، يؤكد أن اتفاقية نيفاشا برمتها لم تكن إلا اتفاقاً إطارياً لا يخلو من (الطبطبة أو المطايبة) مع تأجيل كل التفاصيل الحساسة التي لو نوقشت وقتها لما خرجت الحكومة والحركة الشعبية باتفاق أصلاً. الدليل على ذلك أن ملف أبيي الذي إحتاج الى تحكيم دولي بلاهاي، لا يزال قنبلة موقوتة ومثله البند الغامض الخاص بالمشورة الشعبية لمناطق جبال النوبة والنيل الأزرق الذي تصر الحركة على اعتباره أشبه بتقرير المصير لهذه المناطق، في حين لا ترى الحكومة أو المؤتمر الوطني في ذلك البند سوى حق سكان المنطقتين في تقييم وتقويم تنفيذ اتفاقية السلام الشامل فيما يليهم بعد نهاية الفترة الانتقالية!! والأمر ينطبق على كثير من البنود الخطيرة والمثيرة، بل لقد أصبحت اللقاءات الثنائية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية التي تعقد بعد كل خلاف أو أزمة، تتجنب النظر العميق في أصل الأزمة الى تنفيس الإحتقان مؤقتاً ثم ترحيل الأزمات الى المستقبل، حتى أصبحت عودة المياه الى مجاريها اليوم لا تعني عدم انسداد قنواتها غداً!! إن قدرة الحركة الشعبية وجرأتها على نقض إتفاقاتها وتعاهداتها مع كافة الجهات يعتبر من المؤشرات الخطيرة على توتر الساحة السياسية وبالتالي استقرار البلاد وأمن أهلها، فقد تجاوزت الحركة في الماضي شراكتها مع التجمع الوطني ودخلت منفردة لتعقد اتفاقية نيفاشا مع الحكومة، ثم تعمل على نقض كثير من البنود الواضحة والملزمة بنص الإتفاقية والدستور بلا حياء عندما لا ترى في ذلك تحقيق أهدافها الخاصة، وليس أدل على ذلك من مقاومتها لعملية التعداد السكاني وعدم اعترافها بنتائجه واحتكارها للعمل السياسي لنفسها ومنع الأحزاب والكيانات الأخرى بما فيها شريكها المؤتمر الوطني، بالإضافة لإضعاف أدوار المؤسسات الإتحادية بجنوب السودان مما حجب موارد قومية مهمة مثل الضرائب والجمارك والزكاة، أو غيرها من المخالفات الصريحة. وتعمل الحركة الشعبية جاهدة اليوم لتحقيق قرارها الداخلي الذي تصمم عليه وهو أن تنتهي إجراءات تقرير المصير بفصل الجنوب، فقد يئست من حكم السودان كله ولا ترغب في وحدة مع دولة عربية وإسلامية، أو كما قال السيد دينق ألور بصراحة يحسد عليها. يعمل المؤتمر الوطني في ذات الوقت بإصرار على قيام الانتخابات في موعدها المنصوص عليه، مستهدفاً الوحدة الجاذبة وفاءً بالعهود. فهل من مخرج في ظل هذا التباين الواضح بين الموقفين والتشاكس الظاهر بين الشريكين ومنع أحدهما من أن يخرق ما يليه من السفينة، إلا الاتفاق سلماً على ما يحقق الأهداف دون خراب الوطن أو إفساد أمنه واستقراره؟. (ونواصل)..