الصديق الغالي.. جداً.. معتصم فضل.. لك التحايا.. وشوق لا يحد.. وقبل أن أمطرك.. بأشواقي.. وحبي.. واحترامي.. دعني.. أعبر دهليز مكتبك العامر.. وأسأل.. بل أدهش.. أو استنكر.. أو لا أصدق.. سؤالاً.. عاصفاً.. ومحرجاً.. بالغ.. التجريح.. وهو: هل حقاً.. يا صديقي أنك تستمع إلى إذاعتك.. كل يوم.. كل يوم.. وعلى مدار اليوم؟؟.. ثم.. لو كان مدير الإذاعة.. أي شخص غيرك.. لما نال مني حرفاً واحداً.. لما «عبّرته» أو «عبرت» إذاعته.. لمحة.. ولكن.. لأنك.. أنت.. خلق رفيع.. وروح سمحة.. وتهذيب بالغ.. ومهنية شاهقة.. لكل ذلك أكتب لك.. رغم أني.. أعلم أن الضرب على الميت حرام.. والميت هنا.. هو الإذاعة.. بكل أسف.. فقد كانت عزيزة علينا.. كريمة معنا.. لملمت.. أطراف الوطن.. ثم أوقدت ناراً حامية.. وصهرتها لتخرج كرة فولاذية صلبة.. كانت مطاراً.. دولياً.. هبطت فيه كل قلوب.. الشعب السوداني.. من كل صوب.. كل حدب.. كل فريق.. كان مهوى.. لأرواح.. تداعت من نخلات حلفا للغابات وراء تركاكا.. من دارفور الحرة النبيلة.. وكل قبيلة إلى التاكا.. صاغت الإذاعة وجدان الأمة.. بل وحدت الأمة.. لا.. إنها.. من صنعت السودان.. وأخرجت للدنيا.. شعباً.. وقوماً.. وأمة.. اسمها شعب السودان.. ولكنها.. يا صديقي انتحرت.. عامدة وعمداً.. غرزت بيدها السكين حتى النصل في أحشائها.. تفرق دمها.. على كل إذاعات الF.M.. وأنا لست مع محمود درويش.. لعلها المرة الوحيدة.. أن أخالفه الرأي.. آمل أن تكون الأخيرة.. فالرجل الذي كان يكتب بالسكين بل بأطراف أسنة وخناجر.. ملاحم لمحبوبته.. بل زوجته.. فلسطين.. كتب يقول.. القمح مر في حقول الآخرين والماء مالح.. والغيم فولاذ والنجم جارح.. لا يا درويش.. لا يا معتصم.. أنا أستطيب.. وأستطعم.. وأستحلي القمح في حقول الآخرين.. لو وددت.. روعة الأغاني.. بهيج الكلمات.. وروعة الألحان وبديع التطريب.. أذهب مباشرة إلى.. إذاعة البيت السوداني.. حيث يأتي إلى حجرتي.. المسكينة المتصدعة.. وطلاء جدرانها «المقشر».. يأتي.. عوض أحمد خليفة الجنرال.. مصطحباً.. الملك عثمان حسين.. يُسمعاني.. في جلال.. ربيع الدنيا.. لا يغادران عتبة الباب.. حتى.. يأتي من شمال الوادي.. محمد علي أحمد.. يجلس بجوار برعي محمد دفع الله.. في سيارة أبو داؤود.. لأقفز من سريري.. وألزم «الواطة».. لأستمع في خشوع.. ودموعي تبلل التراب.. هل أنت معي.. ويتواصل سيل بل مطر «الرشاش» الرشة في منزلي البائس.. لتفرح كل ود نوباوي.. بتلك الزيارات البهيجة.. من صناع الفرح والجمال.. في داري.. ولو وددت.. قمح الآخرين.. بل هو «عجين» الآخرين.. المصنوعة منه «التورتة» والجاتوهات المكللة هاماتها ب«كريم شانتيه».. تقدمه لنا.. في أناقة إذاعة ساهرون.. تمر ساعتان من عمر الزمان.. وأحسبها دقيقتين.. روعة وإبهاراً.. وبرامج.. حوارية شاسعة الجمال.. خفيفة وسريعة وبديعة الإيقاع كانت «ونسة».. أو من «الذاكرة».. أو مصابيح الهدى.. ولو دهمني.. وداهمني الحنين إلى أهلي وأحبتي.. عشاق كرة القدم.. لا على أصابعي غير.. إدارة المؤشر إلى الرياضية.. حيث.. أستمع حتى «أشبع» بل أتخم من فرط.. أشكال.. وألوان المائدة.. العباسية وكأني في قصر «الرشيد».. صديقي.. أنا حزين.. أن أعلن لك.. أن إذاعتكم باتت تستحق الرثاء والشفقة بل «العزاء».. تصدق.. إن كل الذي يربطني بالإذاعة.. هي ساعة من الزمان.. والسر محمد عوض يستقل كبسولة الزمن.. ليعود القهقرى.. في رحلة عكس دوران الشمس عكس عقارب الساعة.. لينتقي من أرفف مكتبة الإذاعة - التي كانت - برنامج الإذاعة زمان.. صديقي.. أكتب لك في وجع.. وجع من فقد عزيزاً.. والإذاعة كانت عزيزة عليّ.. ولكن لماذا أكتب؟؟ وما الذي أغضبني.. أحكيه وأقصه لك غداً..