استعرضت في مقالات سابقة أهم المبادئ التي أرستها المحكمة الدستورية والتي تتعلق بالدعاوي من الأشخاص تقريراً لحماية حرياتهم وحرماتهم وحقوقهم الدستورية، ونكرر أن مبدأ حرية التعبير والصحافة مبدأ راسخ في السودان منذ أن نال استقلاله، بالإضافة إلى أن السودان صادق على المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تتعلق بحرية الصحافة والتعبير، وفي الدعوى الدستورية بالنمرة م د /3/2000 بتاريخ 2 مارس/ 2000 والتي تقدمت بها إحدى المؤسسات الصحفية ضد المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية ضد قراره بايقاف صحيفة تصدر عنها، مطالباً القرار باندماجها في صحيفة أخرى وتحويل تخصصها إلى سياسة شاملة حتى يتسق ذلك مع اللوائح المنظمة للمهنة. وما دفعني إلى اختيار هذه السابقة الدستورية أنها ناقشت العديد من المبادئ القانونية والدستورية والتي تتعلق بواجبات الصحفي فيما يتعلق بما ينشر في الصحف الاجتماعية، والمبادئ التي ناقشتها المحكمة الدستورية، كانت (السودان من الدول التي منحت الصحافة حرية كاملة في حدود القانون، بل نظمتها في قوانين خاصة بها آخرها قانون الصحافة لسنة 1999م ونصت في المادة 25 منه على واجبات الصحافي التي يجب أن يلتزم بها في ممارسة مهنته وهي كالآتي: أن يتوخى الصدق والنزاهة في أداء مهنة الصحافة، وألا ينشر أي معلومة سرية تتعلق بأمن البلاد أو القوات النظامية، وأن يلتزم بعدم الإثارة في عرض أخبار الجريمة أو المخالفات المدنية، وألا يعلق على التحريات أو التحقيقات أو المحاكمات القضائية إلا بعد الفصل فيها، وأن لا ينشر أي أمر يتعارض مع المعلوم من الدين أو العلم بالضرورة، ويؤدي إلى إشاعة الدجل أو الخرافة، عدم نشر أي أمر يخدش الآداب العامة، وأن يلتزم بقواعد ميثاق الشرف الصحفي. ويذكر مؤلف كتاب (الصحافة في الولاياتالمتحدة نشأتها وتطورها) الدكتور إبراهيم عبده: مؤسسة سجل العرب بصفحة 272 بعد أن ذكر أنه قد صدرت بعض القوانين في الولاياتالمتحدة تشرح وتوضح واجب الصحفي الآتي: (جاء في هذه القوانين تفسير لمعنى المسؤولية، فذكروا أن لكل جريدة الحق في إجتذاب القراء والاحتفاظ في ذلك أمر يتقاسمه العاملون فيها. وأن الصحفي الذي يستخدم صحيفته لصالح شخصي أو لغرض ذاتي دون نظر أو إعتبار للمصلحة العامة، إنما هو صحفي غير مؤهل للثقة الغالية الموضوعة فيه.. وليس معني إصرار أهل المهنة على حرية الصحافة كحق لا جدال فيه مجانبة الخير أو الخروج على الولاء للصالح العام، وتقرر هذه القوانين أنه لا يجوز نشر أنباء دون أن تنسب إلى مصادرها الصحيحة أو على الأقل التحقق من صحتها، كما ينبغي ألا يتحيز المحرر في تعليقه أو يبني معلوماته في هذا التعليق على غير علم بحقيقة الموضوع، فإن في ذلك تخريباً للوطن وانتهاكاً للمبادئ الأساسية لمهنة الصحافة، واعتبارها تجارة رخيصة لا معلماً هادياً). وتفرض هذه القوانين أن تلتزم الصحيفة الصدق لأن قارئها يؤمن بها، فواجبها أن تصدقه الخبر ولا عذر لها إن لم تكن رسالتها كاملة وصادقة، وأنه ينبغي أن يكون الكمال والدقة من صفاتها الأساسية.. وتراعي ذلك حتى في العناوين فضلاً عن مضمون المقالات، وأنه يجب لممارسة الصحافة أن تكون ممارسة سليمة، وأن يكون الفارق واضحاً بين الأخبار والتعبير عن الرأي.. إذ يجب أن تكون الأخبار خالية من الرأي الخاص.. وليس فيها تحيز من أي نوع. ثم توصي هذه القوانين بمراعاة العدالة فيما تنشر الصحف من أشياء، فلا تتهم أحداً اتهامات تؤثر على سمعته أو تسيء إلى شخصيته الأدبية، دون وثيقة في يدها أو دليل تعتمد عليه، وحتى في هذه الحالة يجب على الصحيفة أن تتيح الفرصة للمتهم ليدافع عن نفسه، وتتطلب الممارسة السليمة للمهنة الرفيعة، إتاحة مثل هذه الفرصة لمن تتهمه الجريدة، دون أن تنتظر الصحيفة حكماً قضائياً يلزمها بذلك، بل أنه من شرف الصحافة أن تبادر كل صحيفة إلى تصحيح أخطائها وتسرع في ذلك. وينبغي أن تراعي الصحافة اللياقة في كل ما تنشره، فلا تسلك سلوكاً وضيعاً وهي تورد تفاصيل جريمة أو رذيلة. فإن نشر أنباء الجرائم والرذائل ضار بشرف المهنة إن لم تستهدف الخير العام، وليست صحافة تلك التي تثير في أخبارها الغرائز الجنسية التي يستهجنها الجمهور وتسقط من إعتبار كاتبها ناشرها جميعاً. وكان تعليق المحكمة أنها تتفق إتفاقاً كاملاً مع ما جاء في رأي هذا الكاتب الذي لخص القوانين التي صدرت في الولاياتالمتحدة، والتي يرى أنها واجبة الاتباع بالنسبة لكل صحفي أو صحيفة، غير أن المحكمة ترى أيضاً أن الخطأ لا يمكن إصلاحه إلا عن طريق كشفه للناس جميعاً وإعطاء القراء الحقيقة كاملة غير منقوصة، ولكن في حدود القانون ومراعاة الآداب، وأمن البلاد وسلامتها، وعدم التعدي على حقوق الغير، كما وأنه يجب على الصحافة الحرة أن تضع نفسها دائماً في مكانها الصحيح. وختاماً ترى المحكمة الدستورية أن كل ما ينشر من أخبار الجريمة والفضائح والرذيلة والمآسي وغيرها، يؤثر سلباً على الأخلاق وعلى ما يجب أن نربي عليه النشء، يجب منع ذلك النشر وأن يكون نشره في حدود القانون. ونواصل