كان يحلو لأستاذ الأدب العربي في إحدى المراحل التعليمية أن يدلل على أثر البيئة في ألادب بأبيات الشعر التي قالها البدوي علي بن الجهم عند قدومه لتوه من البادية يمدح بها الخليفة، حيث يقول: أنت كالكلب في حفاظك للود و أنت كالتيس في قراعك للخطوب فأخذوا عليه تشبيهه الخليفة بالكلب ولما مكث فترة من الزمن في المدينة و رقت حاشيته وتهذبت نفسه واترع وجدانه عذوبة أنشد قائلاً : عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدري عند إطلاعي لسنوات خلت على مقال في مجلة نسائية إنجليزية لسيدة تعقد مقارنة بين الرجل والكلب أيقنت أن ذلك البدوي قد ظلم أيما ظلم. فقد أثبتت الكاتبة أن الكلب يفضل الرجل ويبزه خلقاً وسلوكاً - فهو يتمتع بفضيلة الوفاء ولا يعرف النكران والجحود وليس من سماته الغدر والانتقام حتى ولو جار عليه صاحبه أو أجترح في حقه من الأذى ما يصعب السكوت عنه وفوق ذلك فهو شجاع مقدام يدفع عن صاحبه ببسالة وتفان ما يعرض له من اعتداءات. وفي سبيل ذلك قد يلاقي ما يلاقي من أهوال وهو حارس أمين لسيده و لأمواله ولبيته وقد يكابد في ذلك الكثير من العنت و الرهق وسهر الليالي دون تبرم أو كلل ولا تدخل في حساباته المطالبة بالحقوق ولا تستهويه السلطة ولا تشوقه الثروة فهو من القناعة بحيث يكفيه من فتات الطعام ما يقيم أوده. و هو أمين على الأسرار لا يبوح بها مهما كلفه ذلك من ثمن. كما ذكرنا ليس من طبعه الغدر والحقد والرغبة في الانتقام خلافاً لما جبلت عليه الإبل والثعابين وبني البشر وقد وقف سيدنا علي كرم الله وجهه قبل ما يقرب من خمسة عشر قرناً على حقد الإنسان وغدره حيث قال : ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب فالناس بين مخاتل و موارب يفشون بينهم المودة والصفا و قلوبهم محشوة بعقارب ترى ما عساه يقول لو امتد به العمر ليرى ما حاق بالسبطين الحسن والحسين وبقية العترة الشريفة رضي الله عنهم من غدر وخسة. المحزن حقاً أن الكلاب عندنا في السودان لا تلقى منا إلا المذلة والمهانة والحيف فهي دائماً وأبداً مزرورة في الطاحونة وما أكثر ما تبارى صغارنا و كبارنا في قذفها بالحجارة والطوب و نحن نزجرها ونطاردها ونوسعها سباً وننعتها بأرذل الأسماء جرقاس ممعنين في العداء لها ولا أظن ذلك بسبب نجسها لأن الأنجاس غيرها حولنا كثر ولا يلقون منا نفس المعاملة. أغلب الظن أن خلة الوفاء التي تتحلى بها قبيلة الكلاب هي التي حالت دون هجرتها إلى أرض الله الواسعة حيث أناس يقدرونها حق قدرها ويحرصون على توفير كل سبل الراحة والرفاه لها. فيعدون الأسرة الوثيرة لنومها والأواني الصقيلة لطعامها ويوفرون لها الرعاية الصحية اللازمة ويقتطعون جزءاً ثميناً من وقتهم لاصطحابها في نزهة في الميادين العامة. بيد أننا لو قارنا أنفسنا بمجتمعات توسع الكلاب ذبحاً وسلخاً وشواءً لايقنا بأننا أقل خطراً عليها. فلا جرم فنحن أمة حباها الله بنعمة الوسطية. حظ الأبقار من المعاملة يتراوح بين الذبح والسلخ والتقطيع والتعليب والطبخ والإطعام في أغلب بقاع العالم والتوقير والتباهي بها والتغني لها باعتبارها المصدر الرئيس للمكانة الاجتماعية الرفيعة لدى بعض القبائل في السودان ولكنها لا ترقى إلى درجة الرمز الإلهي المعبود كما هي الحال عند الهندوس. معظم الأمم إن لم نقل كلها تطرب للموسيقى والغناء وتهوى الرقص وضروب الفن الأخرى من تشكيل و نحت وتصوير وتمثيل و يحتفون بالمبدعين ويكرمونهم ويرصدون لهم الجوائز المادية والأدبية الثمينة وينصبون التماثيل تخليداً لذكرى الراحلين منهم ، غير أن بعض الطوائف الإسلامية لا ترى في هذه الأنشطة مجانبة للخلق السوي فحسب بل يرمون المبدعين في مجالها بالفسوق والمروق من جادة الإسلام وحتى منتصف القرن الماضي كانوا في السودان يمتهنون المغني ويطلقون عليه لفظ (الصائع) وهي تعني الصعلوك العاطل (لا يمت هذا المعنى لمفهوم الصعلكة في العصر الجاهلي بصلة). هذا ودرجت بعض الجهات على تدريس الموسيقى وضروب الفن الأخرى لطلاب المدارس والمعاهد واعتمدت الموسيقى علاجاً للكثير من الأمراض النفسية. يتسع البون بين ما يجري في المجتعات الأوربية وبعض البلدان الآسيوية من جهة وما يجري في المحيط الإسلامي في مجال العلاقات الجنسية اتساع الشقة بين السماء السابعة والأرض. ففي إحدى البلدان التي يطلق عليها نمور آسيا «النمور سلامتها» تجد أرتالاً من المخنثين وقد اصطفوا على جانبي الطريق المضاءة بالثريات الكاشفة يرتدون الفساتين والباروكات النسائية ويلبسون الأقراط والصدور والأعجاز الاصطناعية ويضعون الأصباغ و المساحيق على وجوههم ويطلون الأظافر بالمناكير والشفاه بالأحمر وقد أزالوا كلما يرمز للرجولة من على أجسادهم يحسبهم الرائي البرئ عقداً منضداً من الحسان. وفي الطرقات أيضاً قد تلقى من الخلاعة وعدم الاحتشام ما قد تفضي بفاعلها إلى غياهب المحبسة أو الجلد لو حدثت عندنا في السودان باعتبارها مخلة بالآداب العامة وفاضحة. هل يصدق أهلنا الطيبون الأتقياء الأنقياء أن في بعض البلدان الأوربية يسمحون قانوناً بزواج المثليين - المرأة بالمرأة والرجل بالرجل -وأن لهم اتحادات ومنظمات تنهض للدفاع عنهم جهاراً نهاراً وتقدمهم الفضائيات و وسائل الإعلام الأخرى بأن لهم قضايا عادلة تتعلق بحقهم في الانجاب وتربية الأطفال. وهل يصدق أهلنا الطيبون الأتقياء الأنقياء أن المرأة في بعض البلدان تعرض عارية كما ولدتها أمها في فترينات المحال التجارية بغرض تسويق عفافها (إن كان لها عفاف) ونحن هنا نستنكف عن نشر الملابس الداخلية للمرأة ونبتذله. وهل يصدق أهلنا الطيبون الأتقياء الأنقياء أن المحال التي تتجر بعفاف المرأة لها مسارح تعرض عليها ممارسات جنسية وشاذة على الطبيعة (live show) بتذاكر بخسة الثمن. وهنالك الكثير الكثير الذي تتأذى منه النفس السوية ويخدش الحياء بل يصيب المرء بالغثيان. فما أحوج هؤلاء إلى جرعات مكثفة من الفضائل الإيمانية تكبح هذا الانفلات الأخلاقي والعهر المبتذل وقديماً قال الشريف الرضي يصف سرباً من ربات العفاف المؤمنات حور حرائر ما هممن بريبة