وتتكامل أجزاء مشهد الثورة في مصر مؤطّرة بأربعة أضلاع فاعلة على الساحة المصرية هي: آ : قوة الثورة المهيمنة على ساحة الحدث، وقد بدأت كبيرة وحاسمة منذ انطلاقتها، وتنامت قدراتها باطراد يومياً بتراكم النقمة الشعبية على مدى ثلث قرن. وتتجلى قوة الثورة بوعيها الوطني، وضبط انفعالاتها في إطار يخلو من رد الفعل، ويتمحور حول هدف مباشر وهو تغيير النظام السياسي برمته. ب : بقايا ما يمتلك النظام من شرعية دستورية تتيح له هامشاً من الوقت يعمل لاستثماره في التقليل من الأضرار الحتمية التي ستلاحقه فور بناء دولة الثورة المسؤولة عن فضح التناقض الذي دفع للفعل الثوري، وأول مفرداته الفساد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على المستوى الداخلي،وثانيه الفساد السياسي الذي نقل مصر من قائدة لكل حراك قومي عربي أو إقليمي، وقوة مناعة للجسم العربي، وعامل تحول حضاري على مستوى الوطن تمثل بدعم كل الثورات الاستقلالية والتحررية في الجزائر وموريتانيا وأرتيريا واليمن وليبيا وغيرها من المنطقة العربية، إلى دولة تابعة لمشروعات خارجية تستهدف الأمة العربية أولاً، وتؤمّن مصالح إسرائيل على حساوق العربية. ج : المشروع الأمريكي المرتبك في المنطقة ما بين استمرار يته مع حليفٍ عوّض دور شاه إيران فيها، والسلوك السياسي المألوف لأمريكا في سرعة رمي الحلفاء في سلة المهملات عند ضعف أدائهم. وبين الضغط الذي تلاقيه من شركائها الإقليميين في المشروع الذين سيجد بعضهم أنهم مرميون على قارعة طريق مجهول الهدف، وبعضهم الآخر أمام عبءٍ مضاف يفاقم إرهاقهم أمنياً واقتصاديا. د : العامل الرابع هو إسرائيل ومستقبلها بعد انكشاف الجبهة الغربية مرةً أخرى، وما يتبعه من أعباء اقتصادية أمّنتها اتفاقيات كامب ديفيد المعلنة وملاحقها السرية. اتجاهات العناصر الأربعة في المشهد ثابتة على مدى الأيام السابقة، لكن المتغيرات طفيفة في التفاصيل، وهي رهانات على سرعة الحسم وكسب الوقت لمصلحة مصر المستقبل، ومع أن أهم الجزئيات هو الدور المنتظر للقوات المسلحة، لكن المراقب العسكري يدرك اتجاه وميول القوات المسلحة نحو قوى الثورة، كون هذه القوات حامية الدستور والشرعية اللذين يتمحوران حول خدمة توجهات الشعب، وتالياً تتجه أولوية مهامها نحو متطلبات الشعب، وخلاف ذلك تفقد قوتها الاجتماعية، وشرعيتها كحامية للوطن ومواطنيه.وربما بدا لبعض المراقبين أن الأوساط الحاكمة في الكيان الصهيوني تبالغ في تقدير طبيعة العواقب التي يمكن أن تترتب على عملية التغيير الجارية في مصر في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني يناير ، فالأوساط الصهيونية تتصرف وكأن تبدلات جوهرية في السياسة المصرية إزاء مسألة الصراع العربي -الصهيوني هي الآن في طريقها إلى التحقيق، رغم أنه لا توجد مؤشرات من الجانب المصري، بوجهيه القديم والجديد ،تشير حالياً إلى مثل هذا التطور، وهذه الرؤية جعلت الصهاينة يفكرون على الفور في إحياء المشروع القديم لمد خطوط للنفط والغاز بين مينائي إيلات وعسقلان وفي إيجاد مصدر بديل لمصر لتزويد الكيان الصهيوني باحتياجاته من الوقود، والواقع أن مخاوف الصهاينة لا تنبثق من معطيات الواقع مثلما تتجلى في اللحظة الراهنة وإنما تنبثق من نظرتهم لاحتمالات المستقبل، و لا يستطيع المراقب السياسي في تعقبه لطبيعة حركة التغيير التي شهدتها مصر مؤخراً إلا أن يميز بين ثلاث مراحل ينتظر أن تمر بها هذه الحركة إلى أن تجد لنفسها الأطر الدائمة التي تتناسب مع حجم التأثير الذي تركته على المجتمع العربي في مصر،صحيح أن هذه الحركة شكلت رد فعل على أوضاع اقتصادية واجتماعية تراكمية عانى منها الشباب المصري بشكل خاص والشعب المصري بشكل عام، وصحيح أيضاً أن هذه الحركة تأثرت أيضاً بالنموذج التونسي الذي نجح فيه شباب تونس في إحراز مكاسب أساسية بمواجهة النظام خلال فترة زمنية قياسية، ومن الصحيح زيادة على ما سبق أن عنصر الربط بين الشباب تمثل في مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، وهذه العوامل مجتمعة أعطت لحركة الشباب المصري صفة العفوية فهؤلاء الشباب الذين خرجوا إلى الشارع بزخم كانوا يفتقدون إلى الإيديولوجيا التي يفترض أن تستند إليها أي قوة تسعى إلى التغيير، أو على الأقل إلى البرنامج الواضح لكن إصرار التحرك على شعار التغيير في صيغته العامة ،ودون الدخول في التفاصيل وما أحدثته حركته من استقطاب لقوى المعارضة، وأيضا لجماهير أخرى كانت تعيش معاناتها دون أن تفكر بمواجهة هذه المعاناة من خلال الأحزاب السياسية القائمة، كل ذلك أدى إلى تطور كبير شهده الشارع المصري ولنا أن نقدر مدى أهمية هذا التطور من ملاحظة أن حركة الشباب، التي بدأت احتجاجاتها بتعبيرات حادة تدلل على الغضب، ما لبثت أن تقمصت روح الشعب المصري في السخرية وفي الغناء، لتحويل المشهد إلى صورة إن دلت على شيء فعلى وجود إصرار على مواصلة الحركة حتى تصل إلى أهدافها، ولكن بما أن هذه الأهداف لم تكن واضحة أصلاً ،فإن المحتشدين من أبناء مصر ومن كل الفئات باتوا معنيين بمناقشة الأهداف المطلوبة في حلقات تجمعهم، مثلما باتوا معنيين بمناقشة طرائق العمل الدائمة، وهذه العملية التي يحتاج تبلورها في نهاية المطاف إلى إيديولوجيا سياسية يمكن أن تنضج في ظروف التحرك الشعبي بأسرع مما هو منتظر في الظروف المعتادة، فإذا كان الشباب الذين التأموا في هذا التحرك الجماهيري الذي تحول من شبابي إلى شعبي، قد اكتشفوا أنهم بلا قيادة تعبر عن تطلعاتهم، بل وإن صياغتهم لتطلعاتهم يعتريها شيء من الضبابية ،أو بالأحرى تعدد التصورات، فإن التغلب على هذا الوضع وعلى خلفية الإنجازات التي حققتها الحركة الثورية الاحتجاجية تبشر بولادة حزب، أو أحزاب جديدة في مصر، أو في تطوير لبنى أحزاب المعارضة القائمة ،بحيث يتم استيعاب الطاقات الجديدة فمن المنطقي القول بأن الشباب الذين جمعتهم كلمة (التغيير) قد أدركوا أمرين أساسيين: أن اجتماع الكلمة والاستعداد للتضحية ضروريان من أجل الوصول إلى الهدف وهذا ثبت بالفعل. : أن الساحات العامة والشوارع ليست المكان الملائم دائماً للتعبير عن المطالب وأنه لابد من إيجاد صيغ ملائمة تضمن استمرارية هذا التعبير، ولابد عندئذ من اعتماد صيغ تنظيمية تؤطر نشاطهم السياسي وهذا يعني التفكير بمستلزمات العمل من خلال الأطر الحزبية المنظمة ومن خلال المؤسسات الدستورية المعتمدة.