جاء إلى لندن مواطن سوداني بغرض تجارة الشنطة والتي كانت رائجة في ذلك الزمان 1985- 1987 فترة عملي في السفارة السودانية في لندن، وكان يود أن يصطاد عصفورين بحجر- تجارة وإجراء فحوصات طبية وعلاج- فالرجل متزوج ولكنه لم ينجب، فنصحه الطبيب السوداني الذي كان يتلقى عنده العلاج أن يقابل الطبيب البريطاني «فلان»- أعطى الاسم للمريض مع العنوان.. ذهب المريض السوداني إلى المكان ولكن سكرتيرة الطبيب أخبرته أنه في إجازة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وسيعود إلى لندن بعد شهر، ولما كانت الفترة طويلة على الرجل أن ينتظر فيها في لندن نصحته السكرتيرة أن يقابل الطبيب «فلان» ويعمل في مستشفى الأميرة قريس وهو الذي يشرف على مرضى الطبيب المسافر. ذهب المريض السوداني إلى مستشفى الأميرة قريس، وطلب من موظفة الاستقبال مقابلة الطبيب «فلان» وحكى لها موضوعه، وبينما هو واقف أمامها يتحدث وهي تستمع إليه وقبل أن يكمل حديثه وقع الرجل على الأرض في استقبال المستشفى، فتم أخذه إلى الداخل لإسعافه ولسوء حظ الرجل فقد وجدوا أنه مصاب بداء السرطان بالكبد، ولحسن حظه «رحمه الله» كان بالمستشفى المستشار سلك Silk رئيس المجلس الطبي للمستشفى، وهو طبيب معروف في علاج السرطان في بريطانيا والولاياتالمتحدة وفي عدد من دول أوربا، وبالكشف على الرجل اتضح للمستر سلك أنه على وشك الموت، ولذا أدخله المستشفى رغم احتجاج الوحدة الإدارية فيها، لأن المريض لا يملك المال الكافي لتغطية نفقات الإقامة بالمستشفى.. ناهيك عن كلفة علاج السرطان الباهظة، والغرفة بمبلغ ثلاثمائة جنيه استرليني في اليوم.. ولكل أمر آخر ثمنه، إلا أن المستر سلك رفض موقف الجناح الإداري وقال إن مهمتهم ليست جلب المال تحت كل الظروف.. فهو لا يقبل أن يترك هذا الإنسان الذي على وشك الموت أن يموت في أحد شوارع لندن مثل الكلب الضال.. وهكذا نطقها.. وقال لإدارة المستشفى إن عدم القبول لهذا المريض بالبقاء فيها وبالمجان يعني مغادرته للعمل فيها وإنهاء العقد المبرم بينها وبينه، فأخذت إدارة المستشفى بالأيسر وهو الإبقاء على المريض في المستشفى بالمجان.هاتفني المستر سلك وطلب أن نتقابل صباح الغد «يوم جمعة».. في التاسعة صباحاً في الطابق الثالث عند مكان تواجد السستر، وفعلاً قابلته وأخذني إلى الغرفة التي يرقد فيها المريض وطلب منه الاستلقاء على ظهره ووضع المستر سلك يده على بطن المريض ويقول لي لم أرَ في حياتي مرض سرطان استشرى في الكبد مثل هذا طيلة العشرين سنة التي أمضيتها في علاج هذا المرض حتى أنني أحس به بدون الحاجة إلى استعمال السماعة.. ويلتفت إليّ قائلاً: هل ترى.. وأقول نعم أرى.. بينما لا أرى غير سرة المريض، ثم قال لي إنه مسافر إلى الولاياتالمتحدة في مساء ذلك اليوم «الجمعة».. وإن المريض سيبقى حتى يفارق الحياة بسلام في المستشفى، فقلت له: هناك رحلة للخطوط الجوية السودانية يوم الأحد «بعد غدٍ» هل تسمح لنا بتسفيره عليها إلى السودان؟.. فنظر إليّ برهة وأجاب: ربما تسفير جثمانه على تلك الرحلة.. افترقنا، وعدت إلى البعثة بعد أن أخذت من المريض المعلومات الضرورية عن شخصه مثل من أين هو؟.. وأين يسكن في العاصمة.. ومن هم أقرب الأقربين له في السودان والعناوين وأرقام الهواتف، وما بحوزته من مال ومتعلقاته التي جاء بها إلى لندن واسم وعنوان الفندق الذي نزل فيه وهكذا.. عند الظهيرة جاءني في البعثة شقيقه بعد أن وصل من دولة الإمارات العربية المتحدة مكان عمله وقال لي إنه غير مقتنع بحديث المستر سلك ويريد رأياً طبياً آخر، ويفكر في إجراء عملية زراعة كبد لأخيه، فقلت له إن المستر سلك طبيب معروف وقد أمر المستشفى أن تبقي عليه فيها وبالمجان وإذا طلبنا رأياً آخر فهذا يعني أنك ستدفع، ومعنى هذا أنك صاحب إمكانات مما يجعل المستشفى تطالبك بتكاليف إقامة أخيك وهو مبلغ كبير ويشجعها على المطالبة إذا تحدثت عن فكرة زراعة كبد لأخيك وهي أغلى زراعة في جسد الإنسان.. واقترحت عليه أن نطلب من الطبيب السوداني المستشار في أمراض السرطان أيوب بيه أن يزور المريض بصفته السودانية، وليس من جهة إبداء الرأي الآخر ونسمع ما يقوله أيوب بيه، ونعرض عليه فكرة زراعة الكبد وجدواها وفرص نجاحها في هذه المرحلة المتقدمة للمرض في كبده، فوافقني على هذا الرأي.. فقمت بالاتصال بالدكتور أيوب بيه وسردت له القصة، وأن الطبيب المعالج هو المستر سلك.. فقال هذا طبيب مشهور في علاج هذا المرض واتفقنا أن نتقابل في السادسة من مساء يوم السبت عند المريض.. وحدث ذلك فعلاً وكشف الدكتور أيوب بيه على المريض بيده المجردة وكان شقيقه ملازماً لنا.. وللابتعاد عنه طلب مني الدكتور أيوب بيه أن نذهب إلى السفارة للاطلاع على تقرير المستر سلك.. والمستر سلك لم يكتب تقريراً أصلاً ولكن فهمت من حديثه أن نبتعد عن شقيق المريض لبرهة.. وفعلاً تحركنا وقلنا للشقيق إنا ذاهبان إلى السفارة وسنعود بعد قليل وعندما تحركت بالعربة قال لي المستر أيوب بيه أعطف في أول منعطف وتوقف وحدث هذا.. وبعدها قال لي إذا رجعنا إلى المستشفى فهناك احتمال أن نجد هذا الرجل قد فارق الحياة.. فأنا لم أرَ في حياتي انتشاراً لمرض السرطان في الكبد مثل هذا- تطابق حديثه مع حديث المستر سلك- وفعلاً عدنا إلى المستشفى وصعدنا بالمصعد إلى الدور الثالث وبالخروج منه قابلتنا السستر وقالت لنا: «أنا آسفة» أي أن المريض الذي يخصكم قد فارق الحياة «له الرحمة والمغفرة».. وتم تسفير جثمانه على الطائرة السودانية يوم الأحد وصدقت نبوءة المستر سلك.. أطال الله في عمره إن كان حياً، وأنعم على الأخ الكريم الدكتور أيوب بيه بالصحة والعافية، وترك تقييم هذه المعاملة من هذا الطبيب لهذا المريض السوداني لمجرد أنه إنسان، ويهدد بأنهاء العقد مع المستشفى إذا لم توافق على إبقاء المريض فيها وبالمجان. - مريض سوداني كان في حاجة إلى إجراء عملية في القلب، تم إجراؤها واستغرقت حوالي ست ساعات، وجاءت فاتورة إجراء العملية بمبلغ ألف وسبعمائة جنيه استرليني، وكان الجنيه الاسترليني والدولار وبقية العملات الأجنبية تباع في السودان في السوق السوداء، ويتم الحصول عليها رغم ذلك بصعوبة، فكلفة العلاج إذاً على هذا المريض كانت عالية- تذكرة سفر بالطائرة له وللمرافق، والإقامة في شقة والأكل والشرب ورسوم الحصول على تأشيرة الدخول إلى المملكة المتحدة، وأخرى غير منظورة، فوجدنا أن المريض في ظروف مالية صعبة وبعد دفع هذه الفاتورة فلن يبقى عنده ما يمكنه من البقاء في لندن لأسبوع واحد بغرض النقاهة والاطمئنان أكثر على صحته ومدى استجابة قلبه للعملية، وكان المخرج هو أن نطلب من الجراح الذي أجرى العملية أن يخفض قيمة الفاتورة، وهذا ما حدث، إذ اتصلت بالطبيب وشرحت له ظروف وحال المريض المالية وأننا نطمع في تخفيض الفاتورة رغم اقتناعنا بأنها كلفة عادية ومستحقة، فما كان من ذلك الطبيب الإنسان إلا أن رد علينا بأن نسحب سبعمائة جنيه من قيمة الفاتورة وندفع فقط الألف جنيه استرليني.. قال ذلك وهو يعتذر لأنه لا يستطع تخفيضها أكثر من ذلك، لأن باقي المبلغ «الألف جنيه» هي استحقاقات الكوادر المساعدة التي أجرت معه العملية، ونصيبه من الفاتورة هو مبلغ السبعمائة جنيه التي تنازل عنها.. شكرنا الطبيب شكراً جزيلاً، وحقيقة الأمر فأنا شخصياً كنت أتوقع أن يخفض مبلغ مائتي جنيه استرليني من الفاتورة وأن ندفع الباقي األف وخمسمائة جنيه، واترك التقييم للقاريء الكريم.