لم يكن قومياً لذلك فشل وتراجع وانحسر ، تحول إلى ( معمل تجارب ) يتناوب على تشغيله فئة محدودة ممن يعتقدون أن مهمتهم تقتصر على نقل أخبار الحكومة وملاحقة مسؤوليها بعدسات الكاميرا لرصد أنشطتهم وعكس تصريحاتهم ، لذلك فهو يستحق لقب التلفزيون الحكومي بامتياز ولايستطيع أن يتمدد سنتمتراً واحداً أبعد من حوش الحكومة وهذا أمر كان يمكن قبوله باعتبار أن تلفزيون أي دولة يمثل خطها السياسي ولكن دون أن يطغى ذلك على الرسالة الإعلامية في مضمونها الواسع والشامل وأن يكون خصماً على الابتكار والتميز . دعونا نتذكر متى عرض التلفزيون الحكومي (بشكل احترافي متعوب عليه ) قضية تهم الناس في تلك الولايات البعيدة حتى نقول إنه ( قومي ) ، وتعالوا نبحث في ذاكرة ( فضائية السودان ) عن ريبورتاج من قلب الحدث تم بموجبه إصدار قرار أو سن قانون يستجيب لبعض شرائح المجتمع ، أو إنتاج عمل درامي يتحول لحديث للناس ومحل إنتباهم ، أو سهرة سودانية خالصة تتخطى الصورة النمطية التي عودنا عليها الجهاز وتعزز قدراً معقولاً من الانفتاح على الأسئلة الأكثر عمقاً وأهمية أو حتى أعمال خفيفة ولطيفة تخفف عن المشاهد رهق الحياة اليومي وثقل أعباء المعيشة . الذين يحتضنهم تليفزيون السودان فيهم أصحاب المواهب والخبرات والكفاءات ، لكنهم مقيدون بأمزجة من يديرون هذا الجهاز الإعلامي الحساس ، وكلما تغيرت الإدارة تبدلت الأمزجة وتحول المرضي عنهم إلى مغضوب عليهم .. والعكس صحيح ، ليجدوا أنفسهم مركونين في الرف أو ممنوعين سراً من الظهور على الشاشة ، ومن يطالع الصحف اليومية سيجد أن هناك أكثر من حانق وساخط على الطريقة الغريبة التي يدار بها التلفزيون ، أما المتعاونون مع الجهاز الحساس فهم وبالسرعة ذاتها والتعجل الذي تم اعتمادهم به تم الاستغناء عنهم ، مما يعكس حجم التخبط الذي يتعامل به التلفزيون مع العاملين به والمتعاونين معه ، والذين مازالوا يلاحقون رواتبهم ومخصصاتهم وحوافزهم دون أن يتوصلوا إلى تسوية واضحة تنهي معاناتهم . لماذا وكيف لاتجد خزانة التلفزيون الرسمي أموالاً تغطي التزاماته تجاه موظفيه ومتعاونيه ، ألا يعد ذلك فشلاً ذريعاً في إدارة اقتصاديات البث المرئي ؟! ، لماذا لم يفلح القومي في استقطاب العوائد المادية من خلال الإعلانات ورعاية الشركات مثلما نجحت في ذلك( قناة النيل الأزرق ) ذات القاعدة الجماهيرية العريضة والانتشار الفضائي الواسع ؟! ، والى متى يستمر التلفزيون في طرح مشروعات خيالية ويتحدث عن مليارات للتمويل وهو عاجز عن دفع استحقاقات من يعملون داخله وعلى نحو جعلهم يقررون الاعتصام للمطالبة بحقوقهم ، ماجدوى البرج العالي وغيرها من مشروعات الهلامية وهو لم يفلح حتى الآن في اقناعنا بأنه مؤهل لتقديم برامج متميزة وتستطيع منافسة جارته القريبة قناة ( النيل الأزرق ) ناهيكم عن فضائيات الأمم الأخرى ؟!، هل حقاً لايريدون فتح الفرص للمبدعين الحقيقيين والمغايرين لأنهم سيفضحون ضعف إمكانات وقدرات من يديرون دفة البرامج ويتحكمون في إجازة أو رفض مايشاؤون عبر لجان شكلية تفتقد إلى العلم والمعرفة والخبرة في المجال التلفزيوني ؟! أم أن هذا هو سقفهم في العطاء وليس عندهم مايقدمونه رغم الإمكانات المتاحة والتي لو وجدتها أية فضائية أخرى لحولتها إلى فرجة مدهشة ورؤية مبهجة بدلاً عن هذا الشحوب والكآبة والرتابة التي تخيم على شاشة القومي . لقد حان وقت التغيير و آن الأوان لمدير التلفزيون الحالي أن يترجل فهذا أكرم له قبل أن تصله الإقالة التي أصبحت حتمية باتفاق العارفين بحقيقة الأوضاع المتردية التي انتهى إليها التلفزيون الذي مازلنا نطمح في أن يكون قومياً وأن يعبر عن كافة ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي ضمن رؤية بصرية تستحق أن يلتف حولها الشعب السوداني وتجد احتراماً خارج حدود الوطن . ماوراء اللقطة : إن تنحي أو إقالة مدير التلفزيون لايعني استبداله بنفس الوجوه القديمة والتي تعرفنا من قبل على ماتملكه من إمكانات أصاب بعضها وأخطأ بعضها الآخر ، فالمرحلة تحتاج إلى وجوه جديدة تؤمن بالتغيير وتستطيع أن تحدث النقلة البرامجية التي تواكب احتياجات المرحلة وماتحمله من تطلعات في التطور الديمقراطي والحرية والعدالة والتقدم والازدهار .